مطبخ زرياب |
كتاب يفتح الشهيّة على القراءة
ما من شك في أن اسم زرياب "الطائر الأسود" الذي غادر العراق
موطنه حوالي عام 820 ليستقرّ في قرطبة، يوحي على الفور بالكياسة والأناقة، وإنما
أيضاً بالتجدّد الدائم. يُنسب الى هذا الموسيقيّ العبقري تأسيس المدرسة الأندلسية
وإضافة الوتر الخامس على العود. إلا أن هذا الشاعر الذي كان يحفظ عن ظهر قلب كلمات
وألحان عشرة آلاف أغنية، اهتمّ بنفس القدر بالجغرافيا وعلم الفلك. أما الذوّاقة من
ناحيته، فقد عزّز في إسبانيا المطبخ الراقي وأصلح فنون المائدة. بالإضافة الى ذلك،
أنشأ معهداً حقيقياً للتجميل، كان يتمّ فيه تعلُّم طريقة قصّ الشعر وتسريحه،
وطريقة التبرّج والتعطّر، وارتداء الملابس بما يتماشى مع الفصول...
فالكاتب حين استعار اسم زرياب لكي يوقّع مقالاته المتعلّقة بفن الطبخ،
والتي صدرت أولاً في مجلّة "قنطرة"، قبل أن تضمّها ضفّتا كتاب، قصد
تكريم هذا العبد المُعتق وهذا الرجل الأسطورة الذي تُفرد له كتب تاريخ الأندلس مساحات
واسعة وتنسب اليه أنه ارتقى بالذوق العام في الأندلس.
يُقسم الكتاب الى ثلاثة أجزاء، الأول بعنوان
"مدائح" حيث يُثني
زرياب على فوائد أربعة عشر صنفاً من الفواكه والخضار وكذلك على الكوسكوس والأرزّ
والبرغل موضحاً أقواله التي غالباً ما تتّسم بالظرافة
بوصفات طبخ مجرَّبة يُدرجها في نهاية كل فصل. والثاني بعنوان "مذكرات
الرحلة" حيث نرى زرياب بعد أن قام مثل السندباد برحلة ممتعة وفكّر مليّاً بعد
كل محطة، يشيد بتقاليد الطهي العربية والبلدان المجاورة. هنا نرى الكاتب بظرفه
المعهود وثقافته الواسعة ينتقل من بلاد المغرب الى المشرق فالخليج، ومن ثم الى
تركيا واليونان قبل أن يصل الى بلدان أوروبا، وفي كل محطة نوادر تكشف كم للطبخ من أهمية
في الإضاءة على ثقافة وتراث هذه البلدان. فالخليج يصبح "قصر التوابل"،
ولبنان "الابتكار بكل تنويعاته"، وسوريا "الأذواق مجتمعة"، والمغرب
"استراحة الذوّاقة"، وتركيا "إمبراطورية الحواس"، واليونان
"مباذخ بيزنطية المنسية"، وإسبانيا "عطر من الجنة" الخ. بهذا الأسلوب يرتقي أدب الرحلة من المشاهدات
اليومية الى التقاط الملامح المميّزة لثقافة كل بلد من خلال الطبخ كمؤشّر حضاري. أما
الجزء الثالث فيحمل عنوان "ألف باء
الأكل الشهي" حيث يذكر زرياب فواكه وخَضْراوات أخرى وكذلك
أنواعاً من المآكل والمشروبات وأشخاصاً تاريخيين يتوجّب على كل هواة الطبخ أن
يعرفوهم. من بينهم بالتأكيد أمير الذوّاقين ابراهيم بن المهدي الذي ألّف أول كتاب
في الطبخ باللغة العربية، وهو كان إبن خليفة وأخ الخليفة هارون الرشيد، لكنه لم
يهتم بالسلطة عندما كانت الخلافة في أوج تألقها، بل كرّس نفسه للطعام الفاخر –
وللشعر والموسيقى أيضاً.
أهمية الكتاب تكمن في أنه للمرّة الأولى يتمّ التطرّق الى تقاليد تذوّق
الطعام العربية بمجملها، في الشرق الأدنى كما في بلاد المغرب، وذلك من خلال مراجع
علمية، وشواهد أدبية، ونوادر تاريخية، وانطباعات سفر ووصفات طبخ. وكلها عناصر
تساهم في تسليط الضوء على الاختلاط الثقافي الذي كان الإسلام محرّكه الأبرز في
المتوسط طيلة عشرة قرون على الأقل.
فاروق مردم بك هو كاتب
سوري عمل مديراً لـِ "مجلة الدراسات الفلسطينية" ومستشاراً لمعهد العالم
العربي في باريس، ويشرف منذ سنة 1995، في دار نشر أكت سود على سلسلة "سندباد"
التي تعنى بالدرجة الأولى بترجمة الأدب العربي إلى اللغة الفرنسية. له عدة مؤلفات
وكتب مترجمة. كما اهتمّ بالطبخ كسمة ثقافية، فكتب سلسلة مقالات عن فنّ الطبخ
وقّعها باسم زرياب؛ وهو يقيم ويعمل في باريس.
أمّا مترجم الكتاب فهو
الدكتور جان جبور المدير السابق لكلية الآداب والعلوم الإنسانية-الفرع الثالث في
الجامعة اللبنانية، له مؤلفات عدة والعديد من الكتب المترجمة، من بينها : "الخوف
من البرابرة" لتزفيتان تودوروف، "اللقاء المعقّد بين الغرب المتعدّد والإسلام
المتنوّع" لفيليس داسّيتو، "أطلس العولمة" لماري-فرانسواز دوران
وفيليب كوبنشي، "مذكرات جاك شيراك : كل خطوة يجب أن تكون هدفاً"،
"أطلس بلدان الخليج" لفيليب كادين وبريجيت ديمورتييه، "أطلس الشرق
الأوسط العربي" لفابريس بالانش، "الإسلام
ولقاء الحضارات في القرون الوسطى" لميشال سو ودومينيك بارتيليمي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق