للإنسان اسم ولقب وكنية، للإنسان في بلادنا وفرة في الأسماء يقابل ذلك نقص
فتّاك بأسماء الشوارع مما يجعل علاقة الإنسان بالشارع علاقة ملتبسة وفريدة من
نوعها. وكلّ إنسان وقع ولو مرة واحدة في حياته، على الأقل، في مأزق الأسماء، وعانى
من عبء التعريف. نمارس هدرا كبيرا دون ان ننتبه ونحن نكتب عناويننا أو نتلفظ بها
فإذا أراد واحدنا ان يدلّ شخصا ما على عنوان ما عليه ان يكون بارعا في الوصف أو ان
يكون المكان الذي أريد ضبط وجوده واقعا قرب مكان نال حظا من شهرة، فيروح الواصف
يستخدم كل ظروف المكان، وأسماء الإشارة ولغة الحركات فيقول "قرب" فلان
أو "قبل" أو "بعد" أو "وراء" أو "مقابل"
أو "فوق" أو "تحت" المحلّ الفلاني الخ...
لا أحد يعرف سبب تميّز لبنان بين دول العالم العربي - ولا أقول بين دول
العالم الغربي - بهذا النقص الذريع بأسماء الشوارع ( أهو جزء من فرادته؟!) وكأنها
شوارع غير معترف بها أو شوارع خارجة على القانون. قد يقال إن للشوارع كلها أسماء
رسمية ولا ينقصها إلا اللوحة الزرقاء التي تزيّن رأس الشارع، قد يكون الأمر صحيحا،
ولكن الاسم هو أداة المعرفة الأولى، انه "أل" التعريف بامتياز، وعدم
وجوده إلا في الأرشيف لا يجعل منه أداة تعريف فاعلة. الاسم مفتاح، الاسم يسمح لنا
بالقبض على المعنى، ومن لا اسم له لا كيان له، لا وجود له. لا شيء بلا اسم، اقلّ
من نكرة يكون. من هنا كانت بعض قبائل الهنود الحمر تقول ان الإنسان جسم واسم وروح،
وضعوا الاسم مقام الجسد ومقام الروح، ومن سلبته اسمه كمن سلبته روحه.
هل توقفت تسمية الشوارع مع نشوب الحرب في لبنان؟ وهل عدم استعادة التسميات
هو عدم تصديق إيقاف الحرب في لبنان؟ أليس جزء من ورشة الأعمار والبناء يكمن في
إعادة ترميم الأسماء وليس الاكتفاء بترميم الحجر؟ الا يحتاج شارع لا اسم له الى
ترميم اسميّ حتّى لا يظلّ هائماً في تصوّر الناس، ومموّه المعالم والملامح. أليس
غياب الأسماء هدراً لأوقات الناس وحرقاً لأعصابهم؟
لا يمكن لعين موضوعيّة أن تنكر وجود أسماء شرعية وجميلة بلوحاتها الزرقاء
إلى الآن من أيام ما قبل الحرب، منها في منطقة التلّ شوارع بأسماء تربطنا بالتاريخ
الجميل كشارع الشاعر الفتّان أبي العلاء المعرّي و شارع الطبيب الفيلسوف ابن سينا
ومنها ما يشدّك إلى مجد أدبي حديث كشارع فيلسوف بشرّي جبران خليل جبران وهو
المعروف باسم " شارع المطران" أو "ساحة الكيال"، ولا اعرف
لماذا لا نعترف باسمه البلديّ، والطريف في الأمر أنّ البلديّة نفسها لا تعترف
باسمه البلديّ! كما لا يمكن لعين أيضا أن تخطىء وجود لوحات زرقاء جديدة، ولكن هذا
لا يمنع العين من أن تتعجّب من غياب الأسماء عن غالبية الشوارع. شوارع بلا أسماء،
أو أسماء يخترعها سكان ضفّتي الشارع أنفسهم، وهي أسماء غير رسمية، غير معترف بها،
ولكنها أسماء تفكّ مشكلة، كبديل عمليّ للاسم المجهول.
لا ريب في أنّ مسألة تغييب الأسماء ظاهرة تستحقّ التفاتة من العاملين
بالشأن الاجتماعيّ، والبلديّ، والسياسيّ، والسياحيّ، والاقتصاديّ، كيف يسوَّق ما
لا اسم له؟ كيف يسوح السائح الغريب في شوارع تنقلب متاهة حين تغيب عنها أسماؤها؟
حين يرزق إنسان ما بولد يكون قد هيأ له مسبقا اسماً يحتضنه ويرافقه طوال
حياته. أما الشارع فانه يولد وينمو ويكتظّ بالبنايات والمحلّات والناس وصخب
الحياة، ويظلّ شارعا ينتظر من يتحنّن عليه باسم، أو يتصدّق عليه بهويّة زرقاء
تشعره انه ليس شارعاً " ابن شارع" هويته قيد الدرس، بل شارع "ابن
ناس" له أصل وفصل.
الإنسان العربي ولوع بالأسماء، يعتبرها تاريخه، أسسه العلمية، من هنا كثرت
الكتب التي تتناول الأسماء في تراثنا الحافل. وفي أرض العرب ترعرعت شجرات الأنساب
ونمت بأغصانها وأوراقها وظلالها الوارفة، ومن فرط حبّ العرب للأسماء ربطوا بين
الاسم والمسمّى فقالوا: "اسم على مسمّى"، و"عاشت
الأسامي"، بل اعتبروا أن الاسم من
السموّ والرفعة، كما قالوا:" من سمّاك فقد وسمك" والوسم كالوشم. وقال
الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم حين أراد إظهار فضل آدم على سائر الخلق
"وعلّم آدم الأسماء كلّها" (سورة البقرة/الآية 31) وأوّل كلمة في القرآن
بعد باء القسم هي "اسم"، فالقسم بالاسم كالقسم بالمسمّى.
المدن التي تحترم نفسها تحترم أيضاً شوارعها وتعاملها نفس المعاملة وتعطيها
كلها أسماء ترفع الرأس وهويات ثابتة وجوازات سفر، وليس فقط الشوارع الفخمة أو
الرئيسية، حتى الزاروب من حقّه أن يكون له اسم، إلاّ إذا كنا - لا سمح الله- نقسّم
الشوارع إلى شوارع ستّ وشوارع جارية أو شوارع بسمنة وشوارع بزيت. فالشوارع كحروف
الأبجدية اهمال حرف واحد يؤدّي الى زعزعة أركان النظام الصوتيّ كلّه.
وقد تتحوّل أسماء الشوارع الى رحلة خصبة في تاريخ المدينة، رحلة تاريخية
وفكرية واجتماعية، فلا ازال اذكر كيف انني كنت اتوقّف في شوارع باريس لأقرأ
المكتوب على الحيطان تحت اسمائها من نبذة قصيرة عن فلان او علاّن من الناس الذين
أسهموا في حياة المدينة اسهاماً علميا او
سياسيا او ادبيا. وكنت أقول بيني وبين نفسي: حتّى الشوارع في باريس تتحوّل الى نصّ
مكتوب يستحقّ القراءة ، أمّا شوارعنا فصفحة بيضاء! شديدة البياض كعيني يعقوب الذي "ابيضّت
عيناه من الحزن
" (سورة يوسف/ الآية 84) على سيّدنا يوسف عليه السلام.
ثمّة بياض يؤلم
العين ويعميها!
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق