بدأ الإنسان يكتب قبل أن يكتشف صناعة الورق. كان يكتب في الطين كما هو حال الكتابة المسمارية في بلاد الرافدين، وينقش في الحجر، ويكتب على جلد الحيوانات أو عظمها، ويكتب على ورق الشجر أو القصب إلى أن انتشرت الكتابة على الورق الذي نعرفه دون أن تكفّ أصابعه عن الحنين إلى الطرائق القديمة في الكتابة. النقش في الحجر لا يزال معمولاً به إلى اليوم، لأسباب فنيّة أو جنائزيّة! تكفي نظرة سريعة على شواهد الأضرحة لرؤية هذا التضاد المرعب بين هشاشة الجثمان ومتانة الشاهد الحجريّ. صار الإنسان حاليّاً يستخدم الكتابة الضوئيّة على زجاجة الكمبيوتر بمعنى استبداله القلم بلوحة المفاتيح. الكتابة تتغير دلالاتها بتغير الوسيط الذي تكتب عليه الكلمات، فالكتابة على الجسد ليست كالكتابة على الورق. وما الأوشام على الأجسام إلاّ طريقة في حفظ الكلمات يحملها المرء أينما ذهب به جلده، وهي كتابة لا تخلو من الأخطار والغواية!
ومن طرائف الكتابة استخدام جلدة الرأس كبديل عن
الورق لأنّ الرسالة المكتوبة على جلدة الرأس تفلت من حواجز التفتيش لاختبائها تحت
كثافة الشعر فتعبر بأمان من مكان إلى مكان من غير أن تثير الشبهات أو ريبة الأنظار.
في
تاريخنا العربي حكاية دامية عن الكتابة على جلدة الرأس حدثت في زمن المستعصم، وليس
المعتصم، أي في لحظة ضعف الخلافة العباسية ضعفاً كان بمثابة أنفاس النزْع الأخير. المستعصم
آخر الخلفاء في عاصمة العبّاسيين تروي كتب التاريخ وكتب السير التي تتناول حياته كـ"أخبار
الخلفاء" للسيّوطيّ أو " فوات الوفيات " لابن شاكر الكتبيّ أو "البداية
والنهاية" لابن كثير حكاية الكتابة على جلدة الرأس. وهي حكاية غنية الدلالات استوحى
منها الراحل المبدع سعد الله ونّوس مسرحيته الفاتنة "مغامرة رأس المملوك جابر".
كان
للخليفة العبّاسيّ المستعصم وزير اسمه ابن العلقميّ ( ومن الدالّ انتسابه إلى
العلقم المرّ ) أراد أن يصانع المغول بعد أن رأى أن شمس الخلافة العباسية إلى أفول
ليحفظ رأسه، كما يقال، عند تبدّل الدول. حين اقترب المغول من حدود بغداد أمر ابن
العلقميّ بحلق رأس أحد مماليكه وكتب بالإبر( ترسيخاً للرسالة ) على جلدة رأس ذلك
المملوك رسالة للمغول تسهّل عليهم عملية الاستيلاء على بغداد والتخلّص من الخليفة
على أمل أن يخلفه. وأبقى المملوك بعيداً عن الأنظار مخافة أن تقرأ الرسالة عين من العيون
التي يبثّها الخليفة، وحين طال شعر المملوك أمره بالذهاب إلى المغول لتوصيل
الرسالة. أكّد ابن العلقميّ للمملوك أنّه سيحصل على مكافأة سخيّة. قراءة الرسالة تتطلّب
فضّ الأختام ولم تكن الأختام في رسالة المملوك إلاّ شعرات رأسه مما يعني أنّ قِراءَتَها
تتطلّب حلاّقاً ماهراً لا تمحو شفرته حَرْفاً من حروف رسالة ابن العلقميّ، وهذا ما
تمّ. كانت المكافأة مفاجَأة ولكن غير سارّة تنتظر المملوك إذ ذيّل ابن العلقميّ الرسالة
بضرورة إتلافها بعد قراءتها وهو أمر لا يتحقّق إلاّ بإتلاف رأس المملوك.
كاتب
الرسالة الموشومة على رأْس المملوك لا يثق به لأنّه- أي المملوك- يستحيل عليه أن
يقرأها ويعرف فحواها والدليل أنّه لو عرفها لما دفع رأسه ثمن عدم قراءتها. عيناه
قاصرتان عن القراءة، ويحتاج، إذا ما أراد ذلك، إلى عيون أخرى ولكن بمجرّد دخول عين
أخرى "على الخطّ " غير عين المرسلة إليه تتعرّض الرسالة لخطر الذيوع
ممّا يعني تعرّض مرسلها، أيضاً، للخطر الذي يفرّ منه.
الطريف
في الرسالة أنّ الذي كتبها ينكر كتابتها لأنّ تبنّيها اعتراف بخيانة تطيح برأسه
قبل الإطاحة برأس المملوك. ولا يمكن للمملوك أن يفصح عنها لأن مضمونها ليس في
متناول عينيه ثم أن محاولته معرفة فحواها سيف ذو حدين، فانتهاك حرمة الأمانة لا
يمكن استئصاله أو محْوه ( لم يكن بمقدوره التملّص من المكتوب بالإبر على رأسه ) ثم
انه بمجرّد قبوله بكتابتها دخل مع ابن العلقميّ في اللعبة التي لا تسمح له بالتبرؤ
منها. ولا يمكن لمن تتوجه إليه الرسالة أنْ يكشف عنها لأنها تربك، من جهة، خططه، ولأن إفشاء مضمونها، من جهة أخرى، نكران
صريح للجميل.
المملوك
دمج في شخصه جملة من الأمور، فهو مملوك - والمملوك، في التعريف العربي، عبد مأمور يباع
ويشترى- وافق على أن يؤدّي رأسه دور الورقة أي أن يكون، ضمناً، ساعي بريد كالأعمى
لا يرى ما يحمل، وأن تكون الرسالة، وهنا الخطورة، جزءاً عضوياً منه لا يمكنه أنْ
ينفصل عنها دون إزهاق روحه.
عادة ما يتمّ إتلاف الرسائل السرية ليأمن المرسل
عواقبها ومكرها، وعادة ما تكون الرسالة منفصلة عن حاملها وليست امتداداً عضوياً له.
فالورقة، على سبيل المثال، ليست وشماً على جسد حاملها! اللعب بطبيعة مكوّنات
الاتصال ليس مأمون العواقب دائماً، فهو كاللعب بالنار أو السير بلا نعل على حدّ
السيف.
إنّ عدم إمكانية انفصال الرسالة عن قناة الاتصال
التي هي المملوك استوجب تصفيته حفاظاً على سريّة الرسالة.
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق