الخط في العنوان له علاقة بالكتابة، ولكن الصفة اللاحقة بالخط لا مفرّ منها. هل يمكن، في أية حال، الفصل بين اللغة والسياسة؟ لم نسمع عن سياسيّ مارس السياسة بلغة الإشارات فقط لا غير. السياسة تنفي الخرسان من مملكتها الضيقة. ولا أحد ينكر دور اللغة في السياسة او ينكر مهارات السياسيين في اللعب بالكلام وليّ أعناق المعاني.
هنا سأتكلم على نقطة واحدة هي الدور الذي تلعبه السياسة ليس في الدلالات المباشرة (كإنهاء خدمات بعض المفردات) وإنما في شكل الخط. لا توجد أمة ليس لديها مشكلة مع خطّها، والدليل، الدعوات المستمرة هنا وهناك لدى أكثر الشعوب، لمعالجة المشاكل الخطية التي تعاني منها لغاتها وأصابع مواطنيها. وبمعنى آخر لا يوجد شعب لديه مشكلة مع فمه وأصوات لغته، ولكن لديه مشكلة في نقل أصواتها على الورق. ولقد ذهب اللغوي الفرنسي جوزيف فندريس (Joseph Vendryes)، على سبيل المثال، الى اعتبار الخط الفرنسي «كارثة وطنية»، وهو لم يقل هذه العبارة لأنه غير وطني، بل ربما وطنيته الفرنسية هي التي دفعته الى استخدام هذه العبارة الموضوعية الجارحة. فالصوت الواحد له تجليات مكتوبة كثيرة، كصوت الـ (O) الذي يكتب (au) او (eau) او (ot) او (haut). ومن يتبع مسار الكتابة الفرنسية يكتشف أنها تغيّرت مع الزمن ولا يُستثنى من ذلك الخط العربي. فهو بدأ عارياً من النقاط والحركات أي ان «النون» في بدء أمرها لم تختلف كتابة عن «الياء» و«التاء» و«الثاء». وكانت العربية قديماً تُكتب من غير حركات ومن غير الألف (أي الفتحة الطويلة). والى اليوم جزء من سوء القراءة لدى القرّاء العرب يكمن في أنهم لا يقرأون الذي أمامهم، لأن المطلوب من القارئ ان يضع من مخزونه المعرفي الشخصي، الحركات او الصوائت أي الفتحة والضمّة والكسرة، ولا أتكلم هنا على الناحية الإعرابية أي تغيير أواخر الكلمات بتغيّر وظائفها النحوية، وإنما عن التغيّرات التي تطرأ على الحرف الأول او الثاني او ما قبل الأخير.
العين تشعر براحة وعلاقة روحية مع خطّ أمتها، ولكن الخط ليس مقدّساً. ليس هناك خط مقدّس لا يُمسّ او غير قابل للتغيير. والدليل ان نُسَخ القرآن في بداية التدوين كانت خالية من النقاط والحركات. والتعديلات الكتابية تمّت بعد انتقال الرسول الى الرفيق الأعلى على يد لغويين خافوا على لغة دينهم ودنياهم، وأُحيل من يهتم بأمر رسم المُصحف الى كتاب قيّم هو «رسم المُصحف، دراسة لغوية تاريخية»، للباحث غانم قدّوري الحمد، الأستاذ في كلية الشريعة بجامعة بغداد.
بعض الشعوب بقياداتها السياسية القوية والكاريزماتية (وهنا دور السياسة الخطّية) قادرة على الانفصال الكلّي عن خطّها (السياسي والكتابي) القديم، وهذا ما حدث للحرف العربي في تركيا على يد كمال أتاتورك. كان تغيير الخطّ تغييراً مرئياً للخط السياسي الذي انتهجه أتاتورك. سقوط الخلافة أسقط معه الحرف العربي في تركيا وأحضر الخط اللاتيني. ولكن كل لغة لا يمكنها ان تتبنّى أي خط من غير تعديل وهذا ما قامت به تركيا. وصار على التركيّ الراغب في قراءة مخطوطات تراثه أن يُتقن الحرف العربي (المُلغى) الذي حمل إبداعات السلطنة العثمانية.
هذا ما فعلته أيضاً الصين، وإن بشكل مختلف، في زمن ماو تسي تونغ، ولكن الخلافات السياسية لعبت دورها، بل أنه من الممكن ان يقرأ المرء الاختلافات الصينية - التايوانية على ضوء الكتابة الصينية. كانت الصين تكتب على امتداد تاريخها من فوق الى تحت أي ان سطرها عمودي ومن اليمين الى اليسار وليس أفقياً كالعربية او الفرنسية، إلاّ ان ماو تسي تونغ ألغى الطريقة القديمة وجعل الكتابة أفقية ومن اليسار الى اليمين. هذا التغيير انقلاب إيديولوجي حادّ. وتدخّل ماو تسي تونغ في عدد خطوط المقطع الواحد. الكتابة الصينية ليست صوتية أي أنها لا تعتمد كالكتابة في العربية والفرنسية على رمز الصوت، وإنما على رسم المعنى، من هنا خلوّها من الألفباء. كل مقطع مؤلف من عدة خطوط. لعب ماو بعدد الخطوط لأنه وجد ان المقطع بتعقيداته في عدد الخطوط يعقّد محاربة الأمية التي كانت طاغية في الصين. وكان ماو يريد استئصال هذا المرض الخبيث المتفشّي في ربوع أمته الناهضة، فعمد الى اختزال خطوط «ألفي مقطع» من المقاطع الأكثر استعمالاً أي أنه خفّف العبء على اليد وعلى الذاكرة معاً، فالمقطع الذي كان يتألف من خمسة عشر خطاً قلّصه الى ثمانية او سبعة خطوط او أقل وفق منهج كتابي صارم وضعه كبار فقهاء اللغة الصينية.
تايوان، وهي كانت تعتبر نفسها الممثل الشرعي الوحيد لتراث الصين، لم تأخذ بقرارات ماو تسي تونغ. فالنظام الذي خسر أمام جحافل الشيوعية انسحب الى جزيرة تايوان. وأعلن من هناك أنه مستمر في العمل لتحرير الصين من المارد الشيوعي. وكان من عناوين تلك المقاومة احتفاظ تايوان بالخط القديم، فهي لا تزال تكتب على نهج ما قبل الثورة الماوية أي من فوق الى تحت ومن اليمين الى الشمال، ومن دون أن تنقص خطاً واحداً من مقاطعها الكثيرة الخطوط.
النظام الكتابي القديم، بدوره، لم ينقرض تماماً في البرّ الصيني، فهو يطل من وقت الى آخر عبر بعض لوحات الخطوط التزيينية التي تكتب طولياً لأنها تتضمن أمثالاً مأثورة وليكون شكلها منسجماً مع هيبة التاريخ.
الزمن كفيل بحلّ تشبّث جزيرة تايوان بخطها القديم، وخصوصاً بعد ازدياد نسبة الإقبال على تعلّم اللغة الصينية بشكلها البسيط! في العالم المتحضّر. وساعتئذ لن تبقى - والله أعلم - تايوان جزيرة متمردة (خطّياً) وداعية للاستقلال عن الوطن الأم.
هنا سأتكلم على نقطة واحدة هي الدور الذي تلعبه السياسة ليس في الدلالات المباشرة (كإنهاء خدمات بعض المفردات) وإنما في شكل الخط. لا توجد أمة ليس لديها مشكلة مع خطّها، والدليل، الدعوات المستمرة هنا وهناك لدى أكثر الشعوب، لمعالجة المشاكل الخطية التي تعاني منها لغاتها وأصابع مواطنيها. وبمعنى آخر لا يوجد شعب لديه مشكلة مع فمه وأصوات لغته، ولكن لديه مشكلة في نقل أصواتها على الورق. ولقد ذهب اللغوي الفرنسي جوزيف فندريس (Joseph Vendryes)، على سبيل المثال، الى اعتبار الخط الفرنسي «كارثة وطنية»، وهو لم يقل هذه العبارة لأنه غير وطني، بل ربما وطنيته الفرنسية هي التي دفعته الى استخدام هذه العبارة الموضوعية الجارحة. فالصوت الواحد له تجليات مكتوبة كثيرة، كصوت الـ (O) الذي يكتب (au) او (eau) او (ot) او (haut). ومن يتبع مسار الكتابة الفرنسية يكتشف أنها تغيّرت مع الزمن ولا يُستثنى من ذلك الخط العربي. فهو بدأ عارياً من النقاط والحركات أي ان «النون» في بدء أمرها لم تختلف كتابة عن «الياء» و«التاء» و«الثاء». وكانت العربية قديماً تُكتب من غير حركات ومن غير الألف (أي الفتحة الطويلة). والى اليوم جزء من سوء القراءة لدى القرّاء العرب يكمن في أنهم لا يقرأون الذي أمامهم، لأن المطلوب من القارئ ان يضع من مخزونه المعرفي الشخصي، الحركات او الصوائت أي الفتحة والضمّة والكسرة، ولا أتكلم هنا على الناحية الإعرابية أي تغيير أواخر الكلمات بتغيّر وظائفها النحوية، وإنما عن التغيّرات التي تطرأ على الحرف الأول او الثاني او ما قبل الأخير.
العين تشعر براحة وعلاقة روحية مع خطّ أمتها، ولكن الخط ليس مقدّساً. ليس هناك خط مقدّس لا يُمسّ او غير قابل للتغيير. والدليل ان نُسَخ القرآن في بداية التدوين كانت خالية من النقاط والحركات. والتعديلات الكتابية تمّت بعد انتقال الرسول الى الرفيق الأعلى على يد لغويين خافوا على لغة دينهم ودنياهم، وأُحيل من يهتم بأمر رسم المُصحف الى كتاب قيّم هو «رسم المُصحف، دراسة لغوية تاريخية»، للباحث غانم قدّوري الحمد، الأستاذ في كلية الشريعة بجامعة بغداد.
بعض الشعوب بقياداتها السياسية القوية والكاريزماتية (وهنا دور السياسة الخطّية) قادرة على الانفصال الكلّي عن خطّها (السياسي والكتابي) القديم، وهذا ما حدث للحرف العربي في تركيا على يد كمال أتاتورك. كان تغيير الخطّ تغييراً مرئياً للخط السياسي الذي انتهجه أتاتورك. سقوط الخلافة أسقط معه الحرف العربي في تركيا وأحضر الخط اللاتيني. ولكن كل لغة لا يمكنها ان تتبنّى أي خط من غير تعديل وهذا ما قامت به تركيا. وصار على التركيّ الراغب في قراءة مخطوطات تراثه أن يُتقن الحرف العربي (المُلغى) الذي حمل إبداعات السلطنة العثمانية.
هذا ما فعلته أيضاً الصين، وإن بشكل مختلف، في زمن ماو تسي تونغ، ولكن الخلافات السياسية لعبت دورها، بل أنه من الممكن ان يقرأ المرء الاختلافات الصينية - التايوانية على ضوء الكتابة الصينية. كانت الصين تكتب على امتداد تاريخها من فوق الى تحت أي ان سطرها عمودي ومن اليمين الى اليسار وليس أفقياً كالعربية او الفرنسية، إلاّ ان ماو تسي تونغ ألغى الطريقة القديمة وجعل الكتابة أفقية ومن اليسار الى اليمين. هذا التغيير انقلاب إيديولوجي حادّ. وتدخّل ماو تسي تونغ في عدد خطوط المقطع الواحد. الكتابة الصينية ليست صوتية أي أنها لا تعتمد كالكتابة في العربية والفرنسية على رمز الصوت، وإنما على رسم المعنى، من هنا خلوّها من الألفباء. كل مقطع مؤلف من عدة خطوط. لعب ماو بعدد الخطوط لأنه وجد ان المقطع بتعقيداته في عدد الخطوط يعقّد محاربة الأمية التي كانت طاغية في الصين. وكان ماو يريد استئصال هذا المرض الخبيث المتفشّي في ربوع أمته الناهضة، فعمد الى اختزال خطوط «ألفي مقطع» من المقاطع الأكثر استعمالاً أي أنه خفّف العبء على اليد وعلى الذاكرة معاً، فالمقطع الذي كان يتألف من خمسة عشر خطاً قلّصه الى ثمانية او سبعة خطوط او أقل وفق منهج كتابي صارم وضعه كبار فقهاء اللغة الصينية.
تايوان، وهي كانت تعتبر نفسها الممثل الشرعي الوحيد لتراث الصين، لم تأخذ بقرارات ماو تسي تونغ. فالنظام الذي خسر أمام جحافل الشيوعية انسحب الى جزيرة تايوان. وأعلن من هناك أنه مستمر في العمل لتحرير الصين من المارد الشيوعي. وكان من عناوين تلك المقاومة احتفاظ تايوان بالخط القديم، فهي لا تزال تكتب على نهج ما قبل الثورة الماوية أي من فوق الى تحت ومن اليمين الى الشمال، ومن دون أن تنقص خطاً واحداً من مقاطعها الكثيرة الخطوط.
النظام الكتابي القديم، بدوره، لم ينقرض تماماً في البرّ الصيني، فهو يطل من وقت الى آخر عبر بعض لوحات الخطوط التزيينية التي تكتب طولياً لأنها تتضمن أمثالاً مأثورة وليكون شكلها منسجماً مع هيبة التاريخ.
الزمن كفيل بحلّ تشبّث جزيرة تايوان بخطها القديم، وخصوصاً بعد ازدياد نسبة الإقبال على تعلّم اللغة الصينية بشكلها البسيط! في العالم المتحضّر. وساعتئذ لن تبقى - والله أعلم - تايوان جزيرة متمردة (خطّياً) وداعية للاستقلال عن الوطن الأم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق