مارسيل بروستMarcel Proust) ) روائيّ فرنسيّ مدهش، واتته القدرة الأدبية على تحويل ذاكرته إلى نصّ روائيّ مديد نال بسببه شهرة واسعة. وروايته الطويلة والمتشعبّة جدّاً: "البحث عن الزمن الضائع" مترجمة إلى أمّهات اللغات ومنها العربيّة. يقال إن مفتاح هذه الرواية كان الرائحة التي فاحت من قطعة "مادلين" مغموسة بالشاي، وحين بدأ مذاق هذه القطعة المركّب يتفتت في فم بروستْ، كانت ذاكرته تتهيّأ لصياغة نصّه الروائيّ الفاتن. عشاق كتابات بروست كثر في العالم، منهم من يقرأ مقتطفات من نصّه بشكل يومي، رشفات قليلة من كلماته، لا أكثر، كفيلة، في نظر البعض، باستدرار نشوة أدبية غامرة.
ولكن الكلام هنا لن يتناول روايته، ولا حياته،
ولا ذاكرته، وإنما خطّه، طريقته في وضع الحرف على الورق لا أكثر ولا أقلّ.
والمفتون بأدبه يودّ ربما لو كان بمقدوره أن يستعير من أصابع بروست طريقته في صوغ
الحرف. ولكن هل ممكن أن تكتب بأصابع غيرك؟ وهل يستطيع برنامج حاسوبيّ استعارة خطّ
كاتب ما؟ هذا ما حاوله أحد الولوعين، فيما يبدو، بخطّ مارسيل بروست، وذلك عن طريق
إدخال مخطوطات بروست في برنامج حاسوبي ثم استخلاص الأحرف أو تفكيكها لتحويلها إلى
أحرف طباعية. وبإمكان أي شخص الآن تحميل خطّ مارسيل بروست من الانترنت للكتابة به.
الفكرة طريفة، ولكن وأنت تكتب بخطه تلحظ أن خطّه يتنكّر لخطّه، رغم أن كل حرف من
هذه الحروف الطباعية هو صورة طبق الأصل عن حرف مستلّ من حركات يديه. وسرعان ما
تدرك، إن كنت من حفظة خطّ بروست، أنّ النصّ المكتوب بخطّه الطالع من أحشاء الحاسوب
غريب عنه ويزعج العين، ولا يمكن أن يكون كتبه بروست ولا بأي شكل من الأشكال؟ يسطو
عليك لأول وهلة شعور بالغرابة. النصّ المكتوب بخط بروست أمامك لا يحمل بصمات خطّه.
السبب إنّ العقل الآليّ لم يتمكن إلى الآن رغم كل قدراته الراهنة آن يقلّد خطك
لأنّ الحرف الواحد لا يخرج من أصابعك بشكل واحد مرتين حتى ولو كان الشكل الذي تراه
أمامك واحدا، وهو واحد لأن العين أسقطت عنه، بطريقة غير شعورية، الاختلافات الطفيفة.
وليلاحظ القارىء حرفا واحدا من حروفه التي يكتبها وليتتبع بعين نبيهة التحولات
الشكلية لهذا الحرف على الصفحة، سوف يدرك أن الأصابع تعجز عن خطّ حرفٍ واحد أكثر
من مرّة بطريقة واحدة، لكلّ لحظة خطّية حياة خاصة بها غير قابلة للتكرار. تكبير
الحرف الواحد المكتوب أكثر من مرة سوف يكشف لك اختلافات في منعطفات الحرف، في جرّة
القلم، أو في كمية الحبر السارية في شرايين الحرف، كما لو أنّ لكلّ حرفٍ مكتوبٍ
حمْضَه النوويّ الذاتيّ. من هنا فإنّ الألفباء الحاسوبية لخطّ بروست ما كان
بإمكانها إلا اختيار الحرف الذي يتكرر شكله الظاهري أكثر من غيره على يد بروست،
وهو ليس الشكل الوحيد، وإهمال جزء من أشكال الحرف الواحد هو ما يدفع العين إلى
نكران ملامح الخطّ البروستيّ الجامد كالمومياء على شاشة الحاسوب.
الأمر نفسه
ينطبق على الأصوات اللغويّة، المرء يظنّ أنّه يتلفظ بالكلمة نفسها مرتين أو أكثر،
وهذا فخّ صوتيّ تقع فيه الأذن غصباً عنها. الأذن لا تدرك ذلك لأنّ قدرات السمع
البشرية لا تلقط هذه الاختلافات لعدة أسباب منها ان الاختلاف الصوتيّ الذي لا يغير
المعنى لا يثير انتباه الأذن فيمرّ مرور الكرام، وثمة أجهزة صوتية حديثة تصور
الأصوات تصويرا فوتوغرافيا، وهو تصوير يشبه من حيث الشكل صورة تخطيط القلب. وتظهر
هذه الصور ان الحرف الواحد لا يخرج من الفم مرتين بشكل متطابق كلّياً بسبب تلّون
الصوت بتدرجات غير نهائية تحت تأثير ما يجاوره من أصوات. إنّ الحرف الواحد يخرج في
كلّ مرّة من الفم بشكل مغاير. إنّ الجامع لكلّ هذه الأشكال هو ما يسمّى
بـ"الفونيم"(Phonème)
أي الشكل المجرّد، المتخيّل للحرف الواحد. ما تعتاد سماعه الأذن ليس هو ما تسمعه،
وما تراه العين ليس هو ما تعتاد رؤيته. ثمة أشياء كثيرة يمكن ان نقارن بينها وبين
الخط، أحيانا يتأمل الإنسان صورة له فيرى إن الألوان فيها ليست هي نفسها في
الواقع، السبب إن عين الكاميرا (الموضوعيّة) حيادية تريك اللون على حقيقته أما عين
الإنسان فإنها تنزع عن الألوان تدرّجات كثيرة لأنها تسقط التغيّرات التي تخضع
لسلطان الشمس ومزاج ضوئها المتقلّب.
اعترضت من أراد
إحياء خطّ بروست عثرات خطّية كثيرة ( فالثورة الرقميّة لا تزال في البدايات) ولكن
من يدري فقد يأتي يوم يتفتّق فيه خيال عالم برمجيّات جامح عن حلول لإخفاقات الراهن
فيستطيع من يحبّ نزار أو جبران مثلاً أن يكتب بخطّهما، وهكذا لن يكون خطّك الشخصيّ
حكراً على أصابعك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق