علاقة الإنسان بالحيوان
تستحقّ التأريخ، وطريقة تصنيف الإنسان للحيوان لا تخلو من دلالة ذهنيّة على نظرة
الإنسان لشريكه في الحياة الدنيا. سوف أشير إلى بعض الأمور كإطار لهذا المقال،
والتسمية واحدة من هذه الأمور. اعتبر طريقة الإنسان والحضارات في التسمية تشي
بدلالات كثيرة نضّاحة، بل إنّ التسمية هي سرّ آدميّ بامتياز بحسب ما تحكي حكايات
سفر التكوين وحكايات خلق آدم الذي علّمه الله سبحانه وتعالى " الأسماء كلّها" (سورة
البقرة/ الآية 31
). ومن حيث التسمية أريد الإشارة إلى أسماء قبائل
بعض العرب الكلبيّة أي ذات الصلة بعالم الكلاب الوفيّة، فهناك قبيلة
"كلب" و"كلاب" و"كليب"، وأسد، وَنُمَيْر، وهناك
أسماء حيوانيّة شائعة ولكنّها خفيّة، كما اسم "أسامة" مثلاً الذي يعني
الأسد ولكنّه مستتر وليس واضحاً وضوح لبدة الأسد لذا لا تستغرب شخصاً يحمل اسم أسامة
ولكن لا يعرف شيئاً عن صلته الأسديّة إن
لم يكن مطّلعاً على دلالة اسمه اللغويّة، بل إذا تجوّلنا في حضارات الشعوب لوجدنا
للحيوان وجوداً مقدّساً كما يبدو لنا من تماثيل الحضارة الفرعونيّة على غرار ما
نرى في " أبو الهول" أو كما في الديانة اليابانيّة المعروفة باسم"
الشانتو" ( صراط الآلهة) أو صلة
الهنود الحميمة بشركائهم في التواجد على رقعة جغرافية واحدة، واكتفي بإشارة الى
سور قرآنية كريمة ذات عناوين مطلة على عالم الحيوان كالبقرة والنحل والفيل والنمل،
أو ما ورد في طيّات السور والآيات كما في حكاية ناقة صالح أو كلب أهل الكهف. وأختم
بمسألة مثيرة هي ولع الجاحظ بمراقبة عالم الحيوانات واهتمامه بتفاصيل قد يجدها
المتعجّل من قبيل ما لا قيمة له أو مذاق، وأتساءل ما السرّ في أن يكون أعظم كتب
الجاحظ حجماً كتاباً يحمل عنواناً بسيطاً
ومتقشّفاً هو " الحيوان"؟ وما السرّ في أن يكون من أجمل ما قيل عن
الكتاب والقراءة في اللغة العربية موجوداً في طيّات كتاب "الحيوان"
تحديداً؟ إنّها مجرد تساؤلات عابرة أودّ أن تكون كفيلة بإغواء القارىء للذهاب الى
كتاب "الحيوان" الجاحظيّ لاصطياد خواطر ثرية.
ولكن ليس الجاحظ هو من دفعني
إلى كتابة هذا المقال وإنّما الشاعر العبّاسيّ عليّ بن الجهم وبعض أبياته الشعريّة
التي مدح بها الخليفة المتوكّل، وهي أبيات غريبة، قد لا يعتقد الانسان انه يمكن أن
تقال في وجه شخص عاديّ فما بالك في وجه خليفة على مرأى ومسمع من حاشية تحبّ مسح
الجوخ وتبييض الوجوه!
تقول الحكاية، كما وردت في كتاب " محاضرة الأبرار ومسامرة الأخبار " للشيخ الأكبر
ابن عربيّ، إنّ الشاعر علي
بن الجهم كان بدوياً، جافّاً، قاسياً،
أثّرت فيه
البادية كثيراً، مع انّه كان رشيق
المعاني لطيف
المقاصد إلاّ أنّ الحياة الجافّة
أثرّت على
ألفاظه، ولسان الانسان ابن المكان الذي عاش فيه، كما هو-
أي اللسان- ابن المكانة التي ينتمي إليها صاحبه، وهذا ما يتناوله علم اللغة
الجغرافيّ وعلم اللغة الاجتماعيّ. حكاية عليّ بن الجهم تتناول أثر البيئة الاجتماعية
والجغرافيّة في مفردات الشاعر وأفكاره ورؤيته وتصوّراته الذهنيّة لعالمه اليوميّ. ضاقت بالشاعر، ذات مرّة،
الحال فذهب
إلى الخليفة المتوكّل لينشده الشعر طمعاً في نيل بعض الحظوة المادّية، فعندما دخل
على المتوكّل مدحه بقصيدة كان منها هذان البيتان:أنت كالكلب
في حِفاظِكَ للودّ وكالتيسِ في قراعِ الخطوبِأنت كالدلْوِ لا عدمناك
دلْواًمن كبار
الدِّلاء كثيرَ
الذَّنوب
عيون
المها بين
الرصافة والجسرِ جلبن الهوى من
حيث أدري ولا أدري
وبعد أن انتهى
الشاعر من
إنشاد قصيدته، أصيب
الجميع بالدهشة، فأطرق الخليفة المتوكّل وكأنّه خائف على
عليّ بن الجهم. فقال
له الحاضرون: ما بالك يا
أمير المؤمنين؟ فقال: إنّي
أخشى عليه
أن يذوب
رقّة ولطافة. وصار الخليفة يأنس بشعره، ورقّته، وتعابيره
السيّالة ويطلب منه تأريخ حالات عادية تجري في مجلس الخليفة بأبيات شعر غير عادية
كما نرى في قصّته مع التفّاحة المعضوضة التي تحوّلت إلى أربعة أبيات رقيقة وطريفة
من الغزل الفوّاح.
يقول عليّ بن الجهم إّنّه دخل ذات يوم على
المتوكّل وبين يديه
تفّاحة معضوضة -والعضّة، هنا، رسالة شفتين
ثرثارتين !- أهدتها له
بعض جواريه، فقال له الخليفة: قل
فيها قبل جلوسك،
ولك بكلّ بيت
ألف دينار؛ فقلت:تفّاحة جرحت بالثغر
من فمها
أشهى إليّ من
الدنيا وما فيها
جاءت بها ظبية
من عند غانية
نفسي من السوء
والآفات تفديها
لو كنت ميتاً ونادتني بنغمتها
إذن لأسرعت من
لحدي ألبّيها
بيضاء في حمرة
علت بغالية
كأنّها قطعة من
خدّ مهديها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق