فتنت المرآة ( وليس المرأة) الإنسان لحظة اكتشافه لها، ووقع ضحية لسحرها
وسلطانها. هل كان الإنسان يعرف نفسه قبل اكتشاف المرايا؟ ألم يكن من قبل إنساناً
باهت الحضور والألوان، لا يعرف ملامح وجهه إلاّ عن طريق اللمس والظلال الجرداء؟ إن
الظلّ أيا كان وضوحه يظلّ يفتقد إلى عالم الألوان الذي يمنح الأشياء خصوصياتها؟
ولكن هل عرف الإنسان نفسه بعد أن اكتشف حقيقة المرآة؟!
لا ريب في أن المرآة حديثة المولد حتى ولو كان الإنسان يعرفها منذ بضعة
آلاف من السنين! فهو، في أي حال، لا يعرف من تاريخ أجداده أكثر ممّا يعرفه طفل
رضيع من أبجديات الكلام.
يروي التاريخ لنا والقصّاصون حكايات كثيرة ساحرة عن المرايا أو ما يقوم
مقامها. كان بؤبؤ العين هو المرآة الوحيدة الطبيعيّة التي تسمح للإنسان برؤية وجهه
في عين الآخرين( وبمحض المصادفة ربّما تحمل كلمة "إنسان" معنى العين في
العربية). كان الآخر، دائما، هو بطاقة تعريف الذات شأنه شأن "عين "
الماء التي أهدتنا أسطورة نرجس.
ومن الحكايات التي سمعتها عن أوّل مرآة في التاريخ حكاية تقول أن أحد
الرجال كان برّاً بوالده وكانت زوجته تغتاظ من هذه العلاقة. وقع الرجل بين نارين:
نار العقوق ونار الزوجة. فضّل كسر الشر ولكن ضميره كان ينخر روحه ولا سيّما بعد أن
فارق والده هذه الفانية.
نزل، في يوم من الأيام، إلى السوق لبيع منتوجاته من سلال القصب. وفيما هو
يتجول في السوق بعد أن نفدت بضاعته إذ بتاجر ينده له ويعرض عليه شراء "شيء
مذهل" لا مثيل له في دكاكين الأسواق.
لم يكن هذا الشيء المذهل إلاّ المرآة الأولى. كشف التاجر عن وجه المرآة
المخبّأة في غلاف من الحرير وما إن تقدم الرجل ليرى المرآة حتى طلّ منها وجه أبيه
وهو في شبابه. ماذا؟ والدي في المرآة! اشتراها الرجل بكلّ ما في جيبه من غلّة
السلال. تأنيب ضميره سوف يشفى على يد هذه المرآة.
قرّر أن يعامل والده كما لم يعامله من قبل. لن يسقط ثانية في عذاب الضمير.
حضن المرآة وذهب إلى البيت. خشي أن تفسد زوجته عليه لقاءه مع أبيه فوضع المرآة في
سقيفة المنزل. وكان في كلّ مساء بعد نوم زوجه يتسلل إلى السقيفة لمجالسة أبيه.
انتبهت المرأة إلى سلوك زوجها الغريب والمريب، صار الفأر يلعب في عبّها كما يقول
المثل، وراحت تتساءل: أي سرّ تحمله السقيفة؟
انتهزت فرصة غيابه للصعود إلى السقيفة واكتشاف سرّ الجلسات الليلية الطوال
وعثرت بعد البحث على المرآة وحين حدّقت فيها طلّت منها امرأة. صعقت لخيانة زوجها
مع "امرأة المرآة"، إذاً كان يتسلّل القذر من الفراش للالتقاء بها، وأنا
كالبلهاء. كاد يجنّ جنونها، احترقت أعصابها وهي تنتظر عودة الخائن.
عاد الرجل. ما كان يخطر له ببال أنّ معركة حامية في انتظاره. وما إن دلف
عتبة الباب حتى انهمر عليه من السقيفة صراخ يمزّق الجوّ. أتخونني، وفي عقر داري،
أيّها الحقير؟ أخبرها بسذاجة الأبرياء أن "الجسم الغريب" ليس إلاّ وجه
أبيه حين كان في شرخ الشباب.أبوك يا كذّاب؟ وهل تحوّل جثمان أبيك إلى امرأة؟ لم
يفهم الرجل عن أي امرأة تتكلّم زوجته.
وفيما كانت المعركة الكلامية على وشك أن تنقلب صراع ديكة إذ بعجوز يصل إلى
باب البيت فطلبا منه حسماً للمشاجرة الصعود إلى السقيفة ووصف ما يراه في المرآة.
عاد الرجل وقال للزوجين: لم أر إلاّ عجوزاً! بهت الزوجان. لم يفهما كلام العجوز، واعتقدا
أنّ قوله من تخاريف الشيخوخة. لم يخطر لأي واحد منهما أن ما رآه ليس إلاّ وجهه
المعكوس في المرآة المصقولة، ومن أين لهم أن يعرفوا ولم يكن لأيّ وجه من وجوههم
تجربة أو علاقة سابقة مع المرايا؟
لا أعرف لماذا عقّب أحد الذين سمعوا الحكاية
بالقول التالي:" إن معنى أيّ كلام مسموع لا يختلف عمّا رآه كلّ من الزوج
والزوجة والعجوز في وجه المرآة الأولى".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق