الخميس، 4 يونيو 2015

مصارعة بين التلميذ والاستاذ


بعض الأدباء تمنح كلماتهم عين القارىء متعة فائقة وتزوّد أعمارهم برصيد من الحنكة. أحد هؤلاء سعدي الشيرازي (600-694هـ)، فـ"حديثه المقطّر فيه ما يشبه حلاوة السكّر"، على ما يقول أحد النقّاد. كنت أقرأ في كتابه "روضة الورد" (كَلستان) وهو عبارة عن مزيج من أريج الشعر وغريب الحكايات، يقال إنّ المتصوّف المبدع جلال الدين الرومي تتلمذ قلمه على حكايات سعدي الشيرازي، وظهرت تلمذته في كتابه الممتع "المثْنويّ".

وصلت في روضة سعدي الشيرازي إلى حكايةٍ طرافتُها في كونها ردّاً على حكاية أخرى. والكاتب، أيّ كاتب، لا يفعل غير أن يردّ بكلماته على نصوص سابقة، ويتفاعل مع الاقتباسات والاستشهادات الظاهرة أوالمضمرة، والإبداع وهم لذيذ يتخيّل المرء، أحياناً، وجوده الفعليّ، ولكنّنا نجد، عند التدبّر، أنّ الإبداع ليس أكثر من توليفة لجملة من الاقتباسات. وعليه، فكلّ الكتّاب عِيالٌ على من سبقهم، وعِيالٌ، أيضاً، على ملاحظات حواسّهم. هذا ما تؤكّده ببراعة "نظرية التَّناصّ"  (L’intertextualité) التي أرست مداميكها الناقدة البلغارية الرائدة جوليا كريستيفا "Julia Kristeva" أيّ تفاعل وتداخل النصوص السابقة مع النصوص اللاحقة.

حين نقرأ حكاية سعدي الشيرازي ندرك أنّه كان يغيّر من مسار حكاية أخرى ذات صياغة شعرية تنتمي إلى تراثنا العربيّ. يحكي سعدي أنّ رجلاً بلغ النهاية في فنّ المصارعة، فحذق في ذلك الفنّ 360 باباً ممّا يحقّ له أن يتطاول بها على الأقران، وفي كلّ يوم كان يلعب بواحد منها، وقد تعلّق وأعجب بأحد تلامذته، فعلّمه كلّ ما يعرفه إلاّ باباً واحداً فقد ضنّ عليه به، وتهاون بتعليمه إيّاه. وكان الطالب مثابراً على التعلّم فحذق كلّ الأبواب التي تلقّاها من أستاذه وكان شديد المهارة في تطبيق هذه الأبواب بحيث أنّه لم يكن لأحد من نظرائه الجرأة على مجاراته في ذلك المضمار، فأخذته العزّة بقدرته الجسمانيّة حتّى أنّه قال ذات مرّة بحضرة الملك: "إذا كان للأستاذ فضل عليّ فلم يكن إلاّ من جهة كبر السنّ وحقّ التربية وإلاّ فلست أقلّ منه قوّة، وأنا وهو في الصنعة كفرسَيْ رهان". فلم يقع كلامه في أذن الملك موقع الاستحسان، لأنّ في كلامه وطريقته في التعبير ما ينمّ عن عقوق متعالٍ وقلّة أدب. أمر الملك بأن يتصارع الأستاذ والتلميذ، ليستعيد التلميذ حجمه الطبيعيّ، إذ ما كان يخطر ببال الملك أنّ بمقدور التلميذ أن يغلب أستاذه، فعيّن لهما ميداناً فسيحاً ثمّ حضر أركان الدولة وأعيان المملكة. أقبل ذلك الفتى وكأنّه الفيل المهتاج وتقدّم بعزيمة ثابتة، فلو أنّ جبلاً من الحديد قابله لاقتلعه من أساسه. أدرك الأستاذ، وهو يرى حالة تلميذه، أن لا طاقه له به، وشعر التلميذ من تردّد أستاذه أنّ النصر سيكون من نصيبه في صراع لن يستمرّ طويلاً، فاشتبك الأستاذ مع تلميذه ولكن الأستاذ دخل إلى المباراة من ذلك الباب الغريب الذي كان قد أخفاه عنه، ارتبك جسد التلميذ وتشّوشت معارفه وحركاته أمام هذا الباب الغريب الذي لا يعرف مداخله ومخارجه، شعر كما لو أنّه في متاهة أو أنّه يسمع لغة لا يتقن حرفاً منها، ولم يعد التلميذ يعرف كيف يدافع عن نفسه، فانتهز الاستاذ بلبلة تلميذه وحيرة جسده وخطفه بكلتا يديه ورفعه فوق رأسه وجلد به الارض، فهتف الحاضرون هتاف الاستحسان وهم يرون عنجهية التلميذ ممرّغة في ميدان المعركة. أمر الملك أنْ يُخلع على الأستاذ وأن يوبّخ التلميذ ويلام. ومما قيل له: "إنّك حاولت مقاومة مربّيك ووليّ نعمتك ومع ذلك لم تصل الى غاية". فقال التلميذ:" أيها الملك إنّ الأستاذ لم ينل الظفر عليّ ببأسه وقوته، ولكنّ باباً واحداً في فنّ المصارعة كان أخفاه عنّي، واليوم من ذلك الباب انتهز الفرصة فتغلّب عليّ". فقال الأستاذ وهو ينظر إلى تلميذه المعفّر بالهزيمة نظرة فيها من الازدراء بقدر ما فيها من الإشفاق: "أجل، لمثل هذا اليوم احتفظت به لنفسي"، ثمّ تابع كلامه قائلاَ: " تعلّمت من جملة الأبواب التي تعلّمتها قولاً يتوّج فنّ المصارعة ويتوّج كلّ فنّ، وهو: لا تظهر لصديقك كلّ قوّتك  لتقدر عليه إذا أصبح في يوم ما عدوّاً لك". ثمّ استشهد المصارع أمام تلميذه ببيتين من الشعر لشاعرٍ خبر الوفاء وأهله، وهما:

أمّا الوفاء  خيالٌ لا وجودَ له        أو أنّه لم يقم،  يوما،ً  به  أحدُ

على الرماية ما درّبت أيّ فتى    لذاك لم تُصْمِ قلبي، بالسِّهام، يدُ.

ولا ريب في أنّ البيتين الأخيرين يضمران أقوالاً مأثورة أخرى، فسعدي الشيرازي تعمّد فيما يبدو تغييب البيتين المأثورين المشهورين، واكتفى بذكر ما يشير إليهما من طرف خفيّ، ومنفيّ ( نلحظ كثرة أدوات النفي في البيتين: لا، لم، ما، لم). ولعّله وجد أنّ القارىء سوف يستذكرهما ويسترجعهما وهو يقرأ حكاية المصارع، والبيتان وصف لخيبة مرّة مُنِيَ بها قلب الناظم:

 أعلّمه الرماية كلّ يـومٍ          فلمّا اشتدّ ساعدُهُ رماني

  وكم علّمته  نظْم  القوافي          فلمّا قال قافيةً هجانـي

وللعرب بعض الأمثال القاسية من حيث المظهر منها ما يتلاقى مع فكرة سعدي الشيرازيّ من وراء حكايته، فثمّة مثلٌ يتوخّى الحذر يقول: "سوء الظنّ من حسن الفِطَن"، ومثلٌ آخر بعيد النظر يؤكّد أنّ "من فكّر في العواقب أَمِن المعاطب". أليس سوءُ ظنّ الأستاذ بتلميذه المفضّل! هو الذي أنقذه من نزقه العاقّ حين انقلب ظهر المجنّ؟

بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق