الثلاثاء، 2 يونيو 2015

العجوز وتنكة البيبسي

لن يكون كلامي عن محتويات تنكة البيبسي ولا عن "المستحلب" أو "الصّمغ العربيّ" الذي يشكّل أحد مكوّنات نكهة هذا المشروب الغازيّ كما هو مكتوب على التنكة، ولا عن علاقة هذا الصّمغ العربيّ بعائلة بن لادن، ولا عن نصيب أسامة بن لادن من مردود صمغها العربيّ سابقاً قبل أن تنفض عائلته يديها منه ومن أيلوله الأمريكيّ بحسب ما ورد في تحقيق كانت قد قدّمته منذ أكثر من عام إحدى المحطّات الفرنسية.

إنّ المقصود بالمقال أمرٌ آخرُ تماماً، لا علاقة له بالإرهاب، ولا باستغلال أفواه الناس في أمور لا تطفىء جمرة الظمآن، وليس له صلة بسرّ النكهة الغازيّة.المقصود مشهدٌ كنت قد رأيته أكثر من مرّة، مشهدٌ لا يزال عالقاً في ذاكرتي، منذ أكثر من عشر سنوات، عن عجوز فرنسيّ أقامت أَوَدَ شيخوخته تنكةُ بيبسي. يبدو أنّ خاطرة لمعت في ذهن ذلك العجوز، أو سؤالاً راود مخيّلته، ولكلّ سؤال أجوبة بعدد وجهات النظر حول هذا السؤال أو ذاك. قال العجوز في نفسه: أيّ تنكة أغلى، الفارغة أم الملآنة؟ قد يكون الجواب البديهيّ أنّ التنكة الملآنة، طبعاً، أغلى. إنّه الجواب الفطريّ، العفويّ الذي يقفز على طرف اللسان قبل غيره، ولكن كم من فكرة قضت نَحْبَها فقط بسبب تسليمها زمام أمرها للجواب الفوريّ أو البديهيّ؟ البديهيّات شَرَكٌ خبيث لا بدّ من أخذ الحذر منه! إنّ هذا العجوز قال: من الممكن أن تكون التنكة فارغةً أغلى منها ممتلئةً، وعلى الأثر سعى إلى تركيب أرجل وأيد وأعصاب لجوابه هذا، ولكن كيف؟

لم يكن العجوز ساحراً، لكنّه كان فيما يبدو فنّاناً، والفنّ قادر على قلب مصائر أشياء كثيرة وعلى تغيير مجراها ومصبّاتها. هل يمكن لأحد أن ينكر أنّ أغلب الإنجازات الكبرى ما كان لها أن تبصر النور لولا تلك الروح الفنّانة التي تلهب وتلهم العلماء كما تلهب وتلهم الشعراء؟ ومن يمكن له أن يقول إنّ العالِم في مختبره لا يستعين بالمجازات والاستعارات والكنايات لتحقيق مرتجاه العلميّ، أو لا يتقن أساليب البلاغة العلميّة التي تساهم في دفعه إلى مآربه الإبداعيّة؟ ومن هفوات بعض الشعراء اعتبار الخيال المجنّح ورؤية الروابط الخفيّة والدقيقة بين الأشياء التي تنبثق منها الاستعارات البعيدة والبديعة كاستعارات شاعر العرب الرائع أبي تمّام وقفاً على جموح مخيّلاتهم.

لقد استعان العجوز بخياله وبتنكة البيبسي، فيما يبدو، لتحقيق هدف بسيط ينقذ شيخوخته من رتابة العيش فراح يقعد في ناحية من نواحي ساحة مركز جورج بومبيدو الثقافيّ القائم بهيكله المعدنيّ والزجاجيّ العملاق في وسط العاصمة الفرنسيّة حيث يكتظّ المكان على امتداد الأيام بالسائحين والفنانين العبثيين وهواة التمثيل الذين يعرضون مواهبهم الفتيّة على الملأ ويكتظّ أيضاً بالعاطلين عن العمل. ساحة مركز جورج بومبيدو أشبه بخشبة مسرح تنفتح أمامك على تشكيلات فنية لا تنتهي، بحيث إنّ الجلوس في مقهى مطلّ على هذه الساحة كفيل بتفتيت أعتى أشكال الضجر.

كنت أشهد العجوز الذي يقعد على كرسيّ وأمامه طاولة صغيرة عليها علب تنك فارغة، وبجانبه قطع من القماش المستعمل، وفي يده مقصّ. كان يمسك التنكة، بأعصاب رخيّة وبتركيز مرهف، ويقلّبها بين يديه ويفكّر بمصيرها وتحوّلات أقدارها المنتظرة على يديه، كان يفكّر بتحريرها من قيود شكلها، والأشياء، كلّ الأشياء، حين تحرّرها من قيد الأشكال تتحوّل إلى عجينة ليّنة، مطواعة لرغبات يديك، وتنفتح أمامها كلّ الأشكال. ويروح العجوز يعمل في قصقصة التنكة مستولداً منها أشكالاً كثيرة طريفة، فطوراً تتحوّل مقعداً وثيراً ومنجّداً، فهو كان يستخدم القماش لتنجيد ما يتطلب التنجيد، وطوراً آخر طاولة أو كنبة أو خزانة أو غير ذلك من قطع الأثاث المُنَمْنَم. بل يمكن لك، أنت المشاهد، أن تحقّق أمنية صغيرة بحجم تنكة بيبسي إذ إنّه كان بمقدوره أن يلبّي لك رغباتك الصغار، وكان يعرض ثمرات يديه على الطاولة، والناس يحيطون به متمتّعين بمهارة أصابعه، وبهذه الفكرة المعدنيّة التي لا تحتاج إلى كبير رأسمال.

السائح هشّ أمام التذكارات، والسائح المقتدر ماديّاً، والذي لا تخلو روحه من هوى فنّيّ، كان ينسى أنّه أمام تنكة فيقتنيها على أساس أنّها تحفة فنّيّة بغضّ النظر عن هزال نَسَبِها.

التنكة الفارغة، هنا، لا تختلف كثيراً عن حجر غيّرت مصيرَه عينا فنّان فقط لأنّه رأى فيه ما لم يره غيره من إمكانات كامنة في ذرّاته كمون الشرر في الحجر، وكمون كلّ الكلمات في حروف الأبجديّة، ولكن هل بمقدور أيّ كان أنْ يرى في ورقة التوت خيطاً من حرير!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق