يقول
المثل:" فالج ما تعالج"، ولكنّ الأمثال محكومة شأنها شأن البشر بالموت. يسري عليها
ما يسري على المستشهدين بها.ومن الظلم أنْ نتبنّى، في الطالع والنازل، ما تقوله كلّ
الأمثال لنا. إنّ الإيمانَ الأعمى بها قد يؤدّي إلى أنْ يعيش الإنسان حياة كسيحة.
واستمرار هذا المثل على قيد الحياة دليل قنوط علميّ، وكسل فكريّ مريب، في زمن بات
فيه المستحيل نفسه جُزءاً من العالم الواقعيّ المحْض أو جُزءاً، في الأقلّ، من
العالم الواقعيّ الافتراضيّ المنبىء عن تجلّيات الغد خصوصاً بعد أنْ أضحى الفاصل
بين العالمَيْن أوهى من خيط، وهذه العبارة، هي بشكل من الأشكال، شكّ في قول كريم
مأثور عن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو:" لكلّ داء دواء"، وإنّ عجز الاطبّاء عن
إيجاد علاج للفالج فذلك لا يعني أن ليس للفالج علاج، وقد يكون علاجاً
طريفاً.
ما لفت
نظري إلى وهَن هذا المثل تجربة شخصيّة موجعة عاشها شخص يدعى نورمان
كوزنز(Norman
Cousins)، فقرّر أنْ يحذف هذا المثل من
حياته لأنّه رفض أن يعيش شلله كأمر واقع لا رادّ له، فتمرّدت قدماه على أفواه
الأطبّاء، وانتفض جسده ضدّ ما أصابه من شلل أقعده عن الحركة.
لقد قام
كوزنز، وهو صحفيّ أميركيّ، بزيارة أكثر من طبيب للعلاج. أجمع الكلّ على أنّ شفاءه
من سابع المستحيلات. ولا مستحيل في عالم الطبّ من حيث المبدأ. ولكنّه كذّبهم كلّهم،
وأظهر بطلان توقّعاتهم. قال لهم: أنتم مخطئون، المستحيل في أذهانكم وليس في قدميّ.
ولو أذعن كوزنز لتشخيصات الأطبّاء لظلّ، إلى آخر رمق، مقعداً كسيحاً، تحت رحمة
كُرسيّ نقّال، إلاّ أنّه قرّر أنْ يشفي حاله بحاله وشفي. قرّر أنْ يحرّر قدمَيْه من
حكم الأطبّاء المبرم والمليء باليأس وحرّرهما.
ماذا فعل؟
لقد اتبع طريقاً غير مألوفة للعلاج. ترك كلّ أقوال الأطبّاء ومسكّناتهم وراء ظهره
وذهب إلى مكتبة لبيع الأشرطة السينمائية، ( فالمفلوج وجد علاقة بين الفالج
والسينما!) واشترى كلّ الأفلام الهزليّة التي تطقّ الخزاصر من الضحك، ثم استأجر
غرفة في فندق، وقعد يتفرّج وينقلب على قفاه من الضحك. كما تعاقد، في الوقت نفسه،
مع ممرّضة تقرأ له، لعدم قدرته على الحركة بسبب تصلّب عموده الفقريّ، في الكتب
الهزليّة حتّى ينقلب على قفاه أو يغْشى من الضحك. كان ألمُه لا يطاق، لكنّه اكتشف
أنّ عشْر دقائقَ من الضحك أشبه بجرعة دواء تحرّر جسده من الألم لمدّة تزيد على
الساعتين. وكان "كوزنز" يعرف بأن ليس بالضحك وحده يشفى الإنسان، أو قلْ إنّه لم
يتكّل على الضحك وحده، فهو يريد أنْ يمشي، لا أن يملأ شفتيه بالضحك فقط، كما يريد
أنْ يثبت للأطباء خطأ فحوصاتهم وتشخيصاتهم التي حكمت على قدميه بالشلل الدائم، قرّر
أن لا يأكل كيفما اتفق، فالمعدة بيت الفالج وبيت كلّ داء. راح واشترى كتباً عن
الغذاء ليعرف محتويات كلّ مادة سوف تدخل إلى جوفه، كما انكبّ على قراءة الكتب
والمقالات الطبّية ذات العلاقة بمرضه، ليفصفص كلّ نقطة من هذا الداء اللعين الذي
تغلغل في جسده. قسّم وقته بين الضحك العنيف الذي يهزّ الجسد هزّاً، ويحرّك الدم في
شرايين جسمه، وكأنّه تدليك طبيعيّ، وبين القراءة الطبّية والغذائيّة لينتقي أكله
وطريقة تحضيره. صار يهتمّ بكلّ التفاصيل، وكيف تؤكل هذه الأكلة أو تلك لاستحلاب كلّ
منافعها. فهو في سباق محموم مع مرضه. ليس أصْعب من أنْ تتحدّى نفسك للوصول إلى مطلب
هو في نظر الناس توأم المستحيل، يصير الوقت مهما كان متّسعاً أضيق من خَرْم الإبرة.
ومع الوقت والجهد صار خبيراً بأسماء الأدوية ومحتوياتها ووظائفها، وضليعاً في فوائد
الطعام، وكان يردف ذلك كلّه ببضْع حبّات من الفيتامين فقط، أسقط كلّ الأدوية من
حسابه. وفي النهاية استعاد جسده نشاطه وحيويّته. الأطبّاء ذهلوا فأرسلوا له رسائل
تؤكّد أنّه من الناحية الطبّيّة لا أمل في شفائه إلاّ بمعجزة، ولكن هل الضحك معجزة؟
لقد أثبت
نورمان كوزنز بإرادته الفولاذية وشغفه الباهر بالحياة أنّ بعض الأمثال يفترض أن
يكون لها مدّة صلاحية تصير بعدها غير قابلة للاستهلاك، والاستمرار في استعمالها
يشبه تناول موادّ غذائيّة انتهت مدّتها.
طبْعاً،
ليس بالإرادة وحدها شفي كوزنز، ولكن بالعمل البسيط والصلب أيْ بتحويل الإرادة
النظريّة إلى طاقة عمليّة جبّارة وذكيّة. فأنْ تقرأ في كتب الطبّ، على عويص
مصطلحاته، وأنت لست طبيباً ليس أمراً سهْلاً، وان تنقّب عن تفاصيل تركيب كلّ مادّة
غذائيّة ليس نزهة في بستان، وأنْ تضحك وجسدُك كجحيم يحاصرك بحمم الألم ليس أمراً في
متناول أيّ فم.
كتب كوزنز
سيرة مرضه واستراتيجية شفائه في كتاب ممتع جدّاً يعلّم قارئه أنّ اليأس أخطر من
الفالج وأخبث من مرض خبيث، تحت عنوان طريف قد لا يلفت نظر عين جدّيّة زيادة عن
اللزوم وهو: " كيف شفيت نفسي بالضحك".
وعلى سيرة
الضحك احب أن اختم مقالتي بالإشارة إلى أن اسم النبيّ "اسحاق"- والتسمية عبرية-
يعني "الضحّاك"، وإلى عبارة عربية لها أكثر من دلالة تدور على ألسنة الضاحكين، وهي
" الله يجيرنا من الضحك!".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق