الأربعاء، 16 ديسمبر 2015

الحرف اللاتينيّ في عصره الذهبيّ


لا يمكن لأحد، اليوم، أن يستغني عن الحرف اللاتينيّ إلاّ إذا أراد أن يعيش معزولاً وأعزل، بعيداً عن متطّلبات العصر الراهن العلميّة والروحية والفكريّة على السواء. أيّاً كانت لغتك الأمّ، فإنّه لا يمكنك أن تدير ظهرك للحرف اللاتينيّ. ومهما كان انتماؤك إلى لغتك الأمّ متيناً وحميماً فإنّه محكوم عليك أن تتعامل مع الحرف اللاتينيّ رغماً عن أنفك وحرفك الأمّ. يعيش الحرف اللاتينيّ عزّاً لم يسبق له أن عاشه من قبل، ولا حتّى في زمن الإمبراطوريّة الرومانيّة، ولم يسبق لأي حرف آخر أن عاشه من قبل، لا الحرف العربيّ ولا الحرف الروسيّ ولا الحرف العبري، ولا الحرف الفينيقيّ، ولا الرمز الصينيّ. غيّر الأنترنت حياة الألفباء اللاتينيّة. تجده حاضراً ناضراً في عقر دار كلّ اللغات التي لا تعتمد الحرف اللاتينيّ. تجده في الدول المتحضّرة منها والنامية والمتأخّرة. يطلّ برأسه في اليابان، وفي الصين، وفي الهند، وفي القارّة السمراء، وطبعاً في العالم العربيّ. يكفي أن تنظر إلى عنوان بريدك الإلكترونيّ لتعرف أنّ الحرف اللاتينيّ هو وسيلتك الوحيدة للتواصل عبر البريد، ونافذتك التي تطلّ منها على العالم الافتراضيّ. مفتاح صندوق بريدك الرقميّ حرف لاتينيّ، هذه واقعة لا يمكن دحضها أو الالتفاف عليها. الحرف اللاتينيّ والتقويم الميلاديّ مكوّنان لا يمكن الاستغناء عنهما حتى في أكثر الدول انغلاقاً أو عنصريّة أو اعتزازاً قوميّاً.
 انظر إلى أيّ مجلة عربية أو جريدة عربية أو كتاب عربي تجد في مكان ما الحرف اللاتينيّ، قاعداً ومادّاً رجليه حتّى ولو صدر الكتاب في الرياض أو مكّة المكرّمة أو المدينة المنوّرة. الحرف اللاتينيّ، اليوم، قدر علميّ واقتصاديّ ورقميّ. الاعتراف بالواقع لا يعني أنّ هذا الواقع راسخ رسوخ الجبال. جبال الواقع الراسخة ليست، عند التدبّر وتقليب البصر، أكثر من كثبان من الرمال. بل هذا ما تقوله لنا الثورة الرقميّة نفسها. أشياء كثيرة من تكنولوجيّات وتطبيقات العالم الرقميّ الذي نعيش لحظته الموّارة تقول لنا: العمر قصير، وقصير جدّا. ماذا حدث لهاتف نوكيا؟ وأين الفتنة التي رافقت هاتف بلاك بيري؟ ومن يضمن العمر الطويل للفايسبوك مالىء الدنيا وشاغل؟  أو من يعرف متى تنتهي صلاحية تويتر؟ أو من يمكنه أن يعرف متى يسقط الـ" واتس أب" عن عرشه المكين؟
 تاريخ الحروف كتاريخ اللغات دولاب لا يكفّ عن الدوران! ولكن من المؤكّد أنّ تاريخ الحروف أطول عمراً من تاريخ الأدوات التكنولوجيّة التي نستعملها. فالحرف العربيّ عاش في صحبة المخطوط العظميّ ( الكتابة على العظام) والجلديّ ( الرقّ) والورقيّ، وعاش في ظلّ الورق المطبوع، وها هو يعيش، اليوم، في ظلال الكتابة الضوئية أو الرقميّة. وهو حرف يظلمه أهله، وهو ظلم مبرّر، فطبيعة المظلوم أن يكون، أغلب الأحيان، ظالماً، والانسان العربيّ مظلوم، بغضّ النظر عن مصدر الظلم اللاحق بالعربي، ولأنّه مظلوم فهو" يفشّ خلقه"  بلغته حرفاً وصوتاً!
وكلامي عن الحرف العربيّ نابع من واقع لغويّ بل قل من مشهد مقرون بتاريخ اللغات وتاريخ الحضارات معاً. الحضارات لها مداخل متعدّدة، منها الباب اللغويّ، والباب اللغويّ له مدخلان أو وجهان: منطوق ومكتوب. لا يمكن لأيّة لغة أن تدّعي أنّها حضارية أو ذات رسالة حضاريّة أو تريد أن يكون لها دور حضاريّ دون أن تهتمّ بوجهيها معاً، وعليه لا يمكن لها أن تهمل وجهها المكتوب.
وجهها المكتوب له ملامح، هذه الملامح تحدّدها الحروف.
في فترات المحن تتزعزع الثقة باللغة وبحروفها. سلامة موسى الكاتب المصريّ المرموق يقول في مقال له بعنوان «حاجتنا الحتميّة إلى الحروف اللاتينيّة» بأنّ علوم العصر سوف تبقى غريبة عنّا ما دمنا متشبّثين بحرفنا العربيّ، وعبارته بحرفيّتها تقول: «لن تُسْتَعْربَ العلوم إلاّ إذا اسْتَلْتَنَ الهجاء العربيّ (أي صار لاتينياً)  ». وعدد لا بأس به من المفكّرين الكبار تبنّى وجهة نظر سلامة موسى، ولكنّي أعتبرها وجهة نظر لا تحسن تقليب النظر، لأنّ التاريخ ضدّهم، والجغرافيا ضدّهم، والتراث ضدّهم، والأمم التي نهضت من كبواتها الحضارية ضدّهم.
اليابان فكّرت في فترات انعدام الثقة بذاتها أن تلغي طريقة كتابتها، والانتقال من الكتابة المقطعيّة إلى الكتابة الصوتيّة الألفبائيّة، وتبنّي الحرف اللاتينيّ، وهكذا كان الأمر في الصين التي اعتبر بعض مفكّريها وأدبائها في فترة انعدام الثقة والإحباط الكبير إبّان الاحتلال الغربي لأجزاء من امبراطوريّتها أنّ أحد أسباب هذا الانهيار العارم أمام جحافل الغرب العلميّة والعسكريّة هو طريقتها في الكتابة التصويريّة. كان هناك مشروع لإلغاء الرموز الصينيّة التي اعتبرها البعض عقبة كأداء في سبيل نهضة الصين. وكان ممّن حاول تسويق الحرف اللاتينيّ أحد أهمّ أدباء الصين في ذلك الوقت، وهو لو شون (lu xun)، تماما كما حاول أحد كبار كتّاب لبنان وهو الراحل سعيد عقل تسويق الحرف اللاتينيّ المُلَبْنَن في الكتابة العربيّة. الكبار غير معصومين من الزلاّت وارتكاب الأخطاء! وليس من الحكمة تحميل الحرف وزر الإخفاقات الفكريّة والسياسيّة والعلميّة. اتهام الحرف بأنّه قاصر يشبه اتهام " الروموت كونترول" بالخلاعة أو انحراف السلوك!
فشِل مشروع " لَتْيَنَة" الكتابة الصينيّة، واستطاع الرمز الصينيّ في شكليه القديم والحديث أن يكون حاملاً وحاضناً للنهضة العلميّة والاقتصاديّة والتكنولوجيّة الصينية، بل واستطاعت الصين أن تنهض بلغتها وتعمل على نشرها في العالم عبر فتح معاهد كونفوشيوس التي يزداد عددها يوماً بعد يوم في أنحاء العالم، ويزداد الاقبال على تعلّمها واكتشاف جمالياتها وغناها.
وهنا أحبّ الإشارة إلى ضرورة الاهتمام العربيّ الرسميّ والثقافيّ والتربويّ بالاستراتيجيّة اللغويّة الصينيّة، والاطّلاع بعمق على الآليّات المتّبعة في وضع مناهج تعليم اللغة الصينيّة. فلقد عاشت اللغة الصينيّة في بداية نهضتها أزمة شبيهة بالأزمة التي تعيشها اللغة العربية راهناً، واستطاعت بحذاقة فائقة حلّ مشاكل رموزها الكتابية، على تعقيداتها، مع الكمبيوتر. ويمكن تلخيص الطريقة الصينية في معالجة أزماتها الكلمة المأثورة التي قالها باني نهضتها الحديثة الرئيس الأسبق تانغ شياو بينغ : لا يهمّني ما إذا كان لون الهرّة أبيض أم أسود، ما يهمّني هو أن يصطاد الفأرة.
الثقة هي ما يفتقده المواطن العربيّ في هذا الوقت.  فقدان ثقة متشعّب ومتمادٍ ومتنامٍ، ومن باب استعادة الثقة السياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة والاجتماعيّة، والروحيّة يستعيد المواطن العربيّ ثقته بلغته وحروف لغته.
فالحرف العربيّ باعتراف أهل الفنّ والخطّ جميل، مطواع، روحه رياضيّة، وتاريخه عريق. لا يتمرّد على يديك وأنت تكتبه. ولكن نحن اليوم ندير له ظهرنا. ماذا نفعل به؟ نتركه لصالح حرف آخر. الحرف العربيّ حرف نورانيّ، مضيء، مشعّ، دافئ .الصفات التي ألحقتها به ليست صفات مصطنعة، مزيّفة .فالحرف العربيّ حرفان :حرف شمسيّ وحرف قمريّ .الحرف العربيّ لا يغيب عنه الضوء. ولا أعرف إن كانت هناك لغة أخرى منحت حروفها هذا الكمّ من الضوء؟
ولكن ماذا يفعل حرف ضوئي في مجتمع عربيّ لا تستهويه في هذا الزمن لعبة الأضواء بقدر ما تستهويه لعبة التقليد، والانبهار الأعمى، ولعبة الدم؟
بلال عبد الهادي



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق