زهرة صينيّة
التاريخ مجموعة من الحكايات، والحكايات سيرة حياة
الأقدار، ومن يتتبّع سير الأقدار أو قل استراتيجتها يكتشف انها تسير بشكل متعرّج
على شاكلة الأنهار، وتسير سير الأنهار أو قل سير الأفاعي، لا يمكن للأفعى أن
تتقدّم دون أن تتثنّى في سيرها، التثنّي يوم مقام الأقدام التي تسهل عملية التقدّم.
ويمكن للمرء أن يستوحي أشياء كثيرة من طريقة النهر في حفر مجراه ومسراه، خطرت
ببالي هذه الأفكار وأنا أقرأ حكاية صينيّة قديمة تعود الى القرن الثالث قبل
الميلاد، وهي تروي مقاطع من سيرة أمير كان على وشك ان يتوّج ملكا. وما كان من عادة
الصينيين في ذلك الوقت ان يجلس ملك أعزب على العرش. وبما ان العروس ستكون في قابل
الايّام ملكة, كان على الأمير أن يجد فتاةً يستطيع أن يمنحها
ثقته العمياء. وبناء لنصيحة من أحد الحكماء قرّر أن يدعو بنات المنطقة جميعًا لكي يجد الأجدر
بينهن.
عندما سمعت امرأة عجوز,
وهي خادمة في القصر لعدة سنوات, بهذه الاستعدادات للجلسة, شعرت بحزن جامح لأنّ ابنتها تكنّ حبًا دفيناً للأمير، وعندما عادت
إلى بيتها حكت الأمر لابنتها, تفاجأت بأنّ ابنتها
تنوي أن تتقدّم للمسابقة هي أيضًا. من قال أن ليس للفقر رغبات مشروعة؟ لفّ اليأس المرأة وهي تنصت لكلام ابنتها الطموح، وقالت لها: وماذا
ستفعلين هناك يا ابنتي؟ وحدهنّ سيتقدّمن أجمل الفتيات وأغناهنّ.
اطردي هذه الفكرة السخيفة من رأسك! أعرف تمامًا أنكِ تتألمين, ولكن لا تحوّلي الألم إلى جنون، مدّي بساط حلمك على قدّ قدرتك. مصيرنا معروف، والأقدار لا تحبّ من يتطاول عليها.
أجابتها الفتاة : يا أمي العزيزة , أنا لا أتألم, وما أزال أقلّ
جنونًا، أنا أعرف تمامًا أني لن أُختار, ولكنّها فرصتي في أن أجد نفسي لبضع لحظات إلى جانب الأمير, فهذا يسعدني حتى لو أني أعرف أن هذا ليس قدري.
في المساء, عندما وصلت الفتاة, كانت أجمل الفتيات قد وصلن إلى القصر، وهنّ يرتدين أجمل الملابس وأروع الحليّ,
وهنّ مستعدات للتنافس بشتّى
الوسائل من أجل الفرصة
التي سنحت لهنّ في نيل قلب الأمير.
محاطًا بحاشيته, أعلن الأمير بدء المنافسة وقال: سوف أعطي
كلّ واحدة منكن بذرةً, ومن تأتيني بعد ستة أشهر حاملةً أجمل زهرة، ستكون ملكة
الصين المقبلة.
حملت الفتاة بذرة الأمل المباغت، فمن يدري؟ وزرعتها في
أصيص
من الفخّار,
وبما أنها لم تكن ماهرة جدّا
في فنّ الزراعة, اعتنت بالتربة بكثير من الأناة
والنعومة لأنّها كانت تعتقد أنّ الأزهار إذا كبرت بقدر حبّها للأمير,
فلا يجب أن
تقلق من النتيجة.
مرّت ثلاثة أشهر, ولم ينمُ شيء. جرّبت الفتاة شتّى
الوسائل,
وسألت المزارعين والفلاحين
فعلّموها طرقًا مختلفة جدًا, ولكن لم تحصل على
أية نتيجة. يومًا بعد يوم أخذ حلمها يتلاشى، رغم أن حبّها ظلّ متأججًا. مضت الأشهر
الستة,
ولم يظهر شيءٌ في أصيصها. لم ينبت أي
بصيص أمل من تراب الأصيص. ورغم أنها كانت تعلم أنها لا تملك
شيئًا تقدّمه للأمير, فقد كانت مدركة تمامًا لجهودها المبذولة ولإخلاصها طوال هذه المدّة, وأعلنت لأمّها أنّها ستتقدّم إلى البلاط الملكيّ في
الموعد والساعة المحدَّدين.
كانت تعلم في قرارة نفسها
أنّ هذه فرصتها الأخيرة ليس في نيل قلب الأمير، فلقد قالت البذرة الرعناء كلمتها
الأخيرة بصلافة جافّة، ولكنّها فرصتها الأخيرة في رؤية حبيبها الأمير,
وهي لا تنوي أن تفوتها هذه الفرصة السانحة من أجل أيّ شيء في
العالم.
حلّ يوم الجلسة الجديدة, وتقدّمت الفتاة مع
أصيصها الخالي من أيّ نبتة, ورأت أنّ الأخريات جميعًا حصلن على نتائج جيّدة، وكانت أزهار كلّ واحدة منهن أجمل من الأخرى,
وهي من جميع الأشكال
والألوان الفاتنة.
أخيرًا أتت اللحظة المنتظرة.
دخل الأمير ونظر إلى كلّ من
المتنافسات بكثير من
الاهتمام والانتباه، وراح يتأمّل الأزهار الفوّاحة، وأشكالها البديعة، ورأى
أيضاً أصيص ابنة الخادمة. وبعد أن مرّ أمام الجميع, أعلن قراره, وأشار إلى ابنة خادمته
على أنّها الملكة الجديدة. احتجّت الفتيات جميعًا قائلات إنه اختار تلك
التي لم تزرع شيئًا. عند ذلك
فسّر الأمير سبب هذا التحدّي قائلاً: هي وحدها التي زرعت الزهرة التي تجعلها جديرة بأن تصبح رفيقة العمر وحبيبة
القلب.
فكلّ البذور التي أعطيتكنّ
إياها كانت عقيمة, ولا يمكنها أن تنمو بأيّة طريقة من الطرق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق