الجوع كافر، هذا ما يتفوّه
به القول المأثور. عن الجوع وأفاعيله، وعن أكَلة لحوم البشر، في تاريخنا العربيّ،
في فترة غير زاهرة من فترات التاريخ الإسلاميّ في مصر، مدار هذا المقال. وأغلب ما
سأسرده من شواهدَ مأخوذٌ من كتابين لا يخلو عنواناهما من دلالات مدلهمّة، أوّلهما
بعنوان: " الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة، والحوادث المعاينة بأرض
مصر" للطبيب المشهور عبد اللطيف البغداديّ المُتوفّى عام 625 للهجرة، صدر
الكتاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في
مصر بتحقيق للدكتور عبد الرحمن عبد الله الشيخ. والثاني بعنوان " إغاثة الأمّة
بكشف الغمّة" بتحقيق الدكتور كرم ملحم فرحات، وصدر عن "عين للدراسات والبحوث الإنسانيّة والاجتماعيّة"
في مصر، وضعه المؤرّخ الشهير تقيّ الدين
المقريزيّ المتوفّى سنة 845 للهجرة.
وقد يظنّ القارىء أنّ
الشواهد التي أستلّها من هذين الكتابين إنّما هي افتراء أو أمر يصعب تخيّله، ولا
يمكن حدوثه إلاّ في بلاد لا تعرف معتقداً سماويّاً أو أخلاقيّاً. فأكل لحم الإنسان
محظور، ولكنّ كلّ المحاظير تسقط عند الضرورات، وهذا ما يقوله التعبير البراغماتيّ
المأثور: "الضرورات تبيح المحظورات" بمعنى أنّ بمقدور أيّ محظور إذا ما
توفّرت له ظروف ملحّة أن يتنفّس الصعداء. ولا زلت أذكر مشاهد من فيلم منقول عن قصة
حقيقيّة لتحطّم طائرة في أعالي الجبال المكسوّة بالثلج حيث راح فيه الأحياء يأكلون
لحم الأموات حفاظاً على أرواحهم من هلاك محتوم.
وسأبدأ بالأقدم زمناً وهو
البغداديّ الذي كان قد شاهد فواجع المجاعة التي ألمّت بمصر فيما بين سنتي 595 و 598
للهجرة، ويفترض أن لا يغيب عنوان الكتاب الدالّ عن البال :"الإفادة
والاعتبار" ونحن نقرأ هذه المقاطع الشنيعة والفظيعة. يقول البغداديّ " إنّ
الفقراء لشدّة المجاعة عليهم، كانوا ينبشون قبور الموتى ويلتهمون جيفهم، وكانوا يقتلون
أولادهم ويأكلون لحومهم. وإنّ هذه الفظائع كانت لغرابتها، في مبدأ الأمر، موضع
دهشة الناس وحديثهم، ولكن لم يلبث المصريون، لامتداد المجاعة لديهم، وطول ممارستهم
لأكل لحوم البشر أن اصبحت هذه الفظائع أموراً عادية ، بل أخذ كثير من الناس يجدون
لذّة في هذا النوع من اللحوم، فأصبحت لحوم الاطفال من أزكى الطعام لذّة عند كثير
من الطوائف، وأصبحت تؤكل للذّة لا لضرورة المجاعة، واخترع الناس طرقاً عديدة لطهو
هذه اللحوم وسلقها، وشيّها، وتقديدها، وتعبئتها، وحفظها في التوابل".
وينقل بعض أحداث المجاعة
عام 597 للهجرة، فيقول:" دخلت سنة 597 مفترسة أسباب الحياة، وقد يئس الناس من
زيادة النيل وارتفعت الأسعار وأقحطت البلاد ( .... ) واشتدّ بالفقراء الجوع حتى أكلوا
الميتات، والجيف، والكلاب، والبعر، والأرواث، ثم تعدّوا ذلك إلى أن أكلوا صغار بني
آدم فكثيراً ما يعثر عليهم ومعهم صغار مشويّون أو مطبوخون، فيأمر صاحب الشرطة
بإحراق الفاعل لذلك والآكل".
ويحكي البغداديّ ما رآه
بأمّ عينه : " ورأيت صغيراً مشويّاً في قفّة، وقد أحضر إلى دار الوالي ومعه
رجل وامرأة يزعم الناس إنّهما أبواه، فأمر بإحراقهما". وعثر في شهر رمضان من
تلك السنة على " رجل وقد جّردت عظامه عن اللحم، فأكل وبقي قفصاً كما يفعل
الطبّاخون بالغنم (...) وكان الناس يستفيضون في تناقل أخبار آكلي بني آدم استفظاعاً
لأمره، وتعجّباً من نُدوره، ثم اشتدّ قربهم إليه، واعتيادهم عليه، بحيث اتّخذوه
معيشة ومطيّة ومدّخراً وتفّننوا فيه. وفشا عنهم ووجد بكلّ مكان من ديار مصر، فسقط
حينئذ التعجّب والاستبشاع واستهجن الكلام فيه والسماع له".
ولقد رأى البغداديّ ذات يوم
" امرأة يسحبها الرعاع في السوق، وقد ظفر معها بصغير مشويّ تأكل منه، وأهل السوق
ذاهلون عنها، ومقبلون على شؤونهم وليس فيهم من يعجب لذلك أو ينكره، فعاد تعجّبي
منهم أشدّ، وما ذلك إلاّ لكثرة تكرّره على إحساسهم حتى صار في حكم المألوف الذي لا
يستحقّ أن يتعجّب منه".
ولم تعد الأمّ بمأمن مع
طفلها في الشارع، وهذا ما يستشفّ من كلام البغدادي إذ يقول: "وفي بعض الليالي
بعد صلاة المغرب كان مع جارية فطيم تلاعبه لبعض المياسير فبينما هو الى جانبها،
اهتبلت غفلتها عنه صعلوكة فبقرت بطنه، وجعلت تأكل منه نيئاً. وحكى لي عدّة نساء إنّه
يتوثب عليهنّ لاقتناص أولادهن، ويحامين عنهم بجهدهنّ". والبغداديّ يشير في
خلال حديثه إلى أنّ البعض لجأ إلى أكل لحم الأطفال "استطابة" لا "حاجة".
وعن استطابة لحم الأطفال يسرد
حكاية عن " امرأة ذات مال ويسار، كانت حاملاً وزوجها غائب في الخدمة، وكان
يجاورها صعاليك فشمّت عندهم رائحة طبخ فطلبت منه كما هي عادة الحبالى فألفته لذيذاً
فاستزادتهم ، فزعموا انه نفد فسألتهم عن كيفية عمله فأسرّوا اليها أنّه لحم بني آدم
فواطأتهم على أن يتصيّدوا لها الصغار، وتجزل لهم العطاء. فلمّا تكرّر ذلك منها ضَرِيَتْ
وغلبت عليها الطباع السبعيّة وشى بها جواريها خوفاً منها، فهُجم عليها فوجد عندها
من اللحم والعظام ما يشهد بصحّة ذلك، فحبست مقيدة وأرجىء قتلها احتراماً لزوجها،
وإبقاء على الولد في جوفها".
ينتبه البغداديّ الى غريب
وفظيع ما يقول فيشير معلّقاً: " لو أخذنا نقصّ كلّ ما نرى ونسمع لوقعنا في
التهمة أو في الهذر ، وجميع ما حكيناه ممّا شاهدناه لم نتقصّده، ولا تتبّعنا مظانّه،
وانّما هو شيء صادفناه اتّفاقاً بل كثيراً ما كنت أفرّ من رؤيته لبشاعة
منظره".
امّا المقريزيّ المؤرّخ
الكبير فأنقل من كتابه :" إغاثة الأمّة بكشف الغمّة" هذا المقطع: "وأُكلت
الكلاب والقطط حتّى قلّت الكلاب، فبيع كلب ليؤكل بخمسة دنانير، وتزايد الحال حتى أكل
الناس بعضهم بعضاً، وتحرّر الناس، فكانت طوائف تجلس بأعلى بيوتها ومعهم حبال فيها
كلاليب، فإذا مرّ أحد ألقوها عليه، ونشلوه في أسرع وقت وشرحوا لحمه وأكلوه" ويتابع
المقريزيّ قائلاً: " ثم تزايد الأمر حتى صار غذاء الكثير من الناس لحوم بني
آدم بحيث ألفوه".
ويعزو المقريزيّ أسباب هذه
المجاعات الجائحة التي دفعت الناس إلى أكل بعضهم بعضاً إلى فساد أولي الأمر وسوء
تدبيرهم، فيقول: " وصارت المماليك السلطانيّة أرذلَ الناس، وأدناهم، وأخسَّهم
قدراً، وأشحَّهم نفساً، وأجهلَهم بأمر الدنيا، وأكثرَهم إعراضاً عن الدين، ما فيهم
إلاّ من هو أزنى من قرد، وألصُّ من فأرة، وأفسدُ من ذئب، لا جَرَمَ أن خربت مصر
والشام من حيث يصبّ النيل إلى مجرى الفرات بسوء إيالة الحكّام، وشدّة عبث الولاة،
وسوء تصرّف أولي الأمر".
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق