نهار الاثنين, 23\1\89, فارقت الروح جسد سلفادور دالي
الرسام الاسباني, في مستشفى فيغراس مسقط رأسه في اسبانيا. آخر صورة متبقية منه قبل
رحيله الأخير, هي صورة عجوز مقعد, يحمل شيخوخته بتأفّف ولا مبالاة في آن, وصورة
انف محشوّ بأنابيب تحاول أن تطرد الموت الآتي الى جسد دالي الواهن. شارباه,
وحدهما, كانا يرفضان الرحيل هذا. تشبثا بالبقاء, اذ كان لا يميز بين شموخه
وشموخهما. طرفاهما الى فوق أبدا. لا يشبهان, كما قال, شاربي نيتشه, الذين يأكلان
فمه. ولكنهما رحلا معه للمرة الأخيرة.
سبق لدالي أن ودّع قطعة من روحه ومن جسده قبل ذلك بسبع
سنوات, حين ودّعته زوجته غالا, حملت أمتعتها الجسدية ورحلت الى ما وراء القبر.
هكذا قدر الفنانين: لا يموتون دفعة واحدة, ربما لأنهم لا يعيشون مرة واحدة فقط.
وقصة سلفادور مع الموت لا تبدأ ولا تنتهي بغيابه الجسدي عن العيون. فقد سبق له ان
مات. هكذا يقول وهكذا يحسّ, وإحساس دالي لا يدحض. فهو يقدم براهين على انه شهد,
حين ولادته، حدثا, في أي حال, غير نادر. ولكنه, وهو المنذور للشذوذ والغرابة, يحول
الحدث العادي الى غير عادي.
لقد جاء دالي الى الدنيا في الثالث عشر من شهر أيار
1904, مجيئا عاديا: من والد هوة كاتب عدل في فيغراس وهي ناحية من ونواحي كاتالونيا
الاسبانية, ولكنه فتح عينيه على موته الذاتي, أو بالأحرى, على موته الاسميّ.
واكتشف انه بديل عن ميت, عن أخيه الذي مات قبله بثلاث سنوات وهوة في السابعة من
عمره. حين بدأت عينيه تستوعب الأشياء وجد أنه يعيش عالة على ذكرى أخيه. فهو ليس
هو. هو بديل المرحوم. يحمل اسم أخيه سلفادور. حتى غرفته التي ينام فيها ليست غرفته،
وألعابه عليها بصمات طفل ميت. وان صوره ليست صوره. بل صور طفل آخر تحتلّ الجدران
الى جانب لوحة المسيح وهو على الصليب.
عبقرية وجنون
نزل دالي من بطن أمه قلقا, كما قال, عاش القلق الجنيني
وكانت صرخته الاولى صرخة حادة وسوريالية. فهذا الوضع يدعو الى الجنون، ولكنه رفض
ان يجن. هو عبقري. نادرا ما يعترف عبقري بعبقريته وكأن نكرانها توكيد لها بشكل سرّي.
وهو لا ينكر . بل يعتبر نبوغه بديهة. بين الجنون والعبقرية شيىء هشّ دقيق, أشبه
بشعرة معاوية. وهو لن يقع في الجنون الذي وقع فيه فنان آخر هو "فان غوغ"
الذي كان يمر وهو عائد من المدرسة الى البيت قرب ضريح يحتضن ما تبقى من جسد أخيه.
ولكنه يحمل كذلك على شاهد الضريح اسم الذي ورثه من أخيه.
ودالي لن يكون فان غوغ لأنه لم يفكر يوما في الانتحار.
ولا فكر يوما أن يسلم قيادة عقله للجنون. فدالي يداعب الجنون من بعيد, يداعبه
مداعبة القطّ للفأر. يخدش الجنون بطرف ريشته، بطرف شاربه ربما. الذي كان يستعمله
أحيانا كريشة يغمسها في الحبر الصيني ويرسم مداعبة بالالوان, إذ أن ما يفصله عن
المجنون- كما قال- هو الجنون. كان مخلصا لمزاجه, وهو مزاج فني بأمتياز بل كان
يعتبر أن الفن هو, أولا, ممارسة المزاج بحرية وحدة, دون أي عائق أو قيد. مزاج يكسر
كل رقابة ويرفض النمط المألوف اذ أن اسمه ليس موتا يحمله ويضغط عليه فقط, بل هو في
وقت واحد مشروع. فهو يؤمن بقدرة الاسم الميتولوجيبة على كتابة المصير والمستقبل.
جاء دالي- كما قال- ليغير الفن, ليخرجه من العدم
والرتابة والشكل الباهت. وفي الحقيقة فإن سلفادور كان يستغل الأشياء الى اقصى حد
استغلال فنيا واسمه من جملة الاشياء التي استغلها. فسلفادور يعني بالغة القشتالية "المخلّص"،
معنى دون شك, يحمل أبعادا لاهوتية. و"دالي" يعني بالغة نفسها "الرغبة".
الرغبة الحادة المسعورة الى حدّ الهوس. وأراد هو أن يمارس اسمه بمعناه العمقي. كيف
يخلص المخلص نفسه أولا. من وطأة الرماد, رماد أخيه الذي يملأ قلبه ليمارس رغباته؟
الأمل الفرد- كما قال- هو النرجسية خشبة الخلاص من ناحية، وان يسعى الى تدجين
الموت ومعاشرته من ناحية أخرى، هذا ما فعله. يقول انه كان يغمض عينيه ليتخيل موته,
شريطا قاتما مرعبا يمرّ أمامه. الموت ينفر من عينيه ويلتهم جسده, هو الذي يرفض
الموت ويحلم باماتته ليبقى وحده حيا ولكن هل مات فعلا؟
سأل مرة زوجته غالا بعد أن أراها لوحته "الحاح
الذاكرة" بساعتها المعدنية الرخوة المستوحاة كما قال, من قرص جبنة الكاممبير المستدير
(الجبنة الفرنسية الشهيرة): أبقي شيئ من هذه اللوحة في ذاكرتك بعد ثلاث سنوات يا
غالا؟ فأجابت لا أحد, لا أحد ينساها بعد ان يراها. هل ينسى أحد ذاكرته؟
الطفولة والسريالية
كان يقول انه ليس سورياليا بل هو السوريالية ذاتها. وهي
في رأيه ليست غياب العقل ولا تغييبه, بل اظهاره بشكله الطبيعي, الفطري ذي الوجه
الضبابي. من هنا علاقة طفولته بفنه, تلك الطفولة لشرسة, المشاكسة القائمة على عناق
المستحيل وملامسة المطلق. كان يحلم وهو في السادسة من عمره أن يكون طاهيا ولكن
حلمه تحقق في طهي الألوان وفي استخدام حاسة الذوق لاغراض جمالية تماما, كبودلير
دلك الرجيم الآخر الذي كان يرى في الملعقة, أداة تواصل في العالم وجماليته وفي
الفم " وسيلة لامتلاك المعرفة ". في السابعة من عمره أراد دالي أن يكون
نابليون ومنذ ذلك الحين, بدأ طموحه ينمو ويتضخم. الى حد صار فيه جسده مجرد وعاء هش
لطموح يتخطاه. جسده النحيل لا ينمو فقط تحت ثقل طموح شرس بل تحت طبع وعر ومزاج
صعب. فهو منذ الصغر, يمارس الغرابة التي نذر نفسه لها, كما قال, لمجرد لفت النظر
بل أيضا لإرضاء ما يتراءى له من هلوسات وهواجس. فيتذكر انه في الخامسة من عمره,
حين كان يتنزه مع رفيق له في قرية قريبة من برشلونة, فوق جسر لم يكتمل بناؤه بعد,
فاعترته رغبة في ان يقذف صديقه عن الجسر, من علو أربعة أمتار تقريبا. وبعد أن تأمّل
المكان جيدا, ليتأكّد من أن احداً لا يراه, دفع صديقه ليسقط في الفراغ ومهرولا هو
في الوقت ذاته لاعلان النبأ في البيت، دون أي احساس بالذنب.
ذكريات ما قبل الولادة
يتناول دالي الزمن بألفة ويكتب ذكرياته. عن الاشهر
التسعة التي قضاها في بطن أمه. ذكريات رحمية. يقول إنه يتذكر كل ما حدث له خلال
تلك الفترة. تحولاته الجنينية عاشها بزخم، ولهذا يبدأ كتابه من البدء. وهو حين
يبدأ بالتذكر يحاول أن يحث القارئ على التذكر: "أغمض عينيك, تبصر ما لم يره
أحد غيرك".
ينصح دالي القارئ بأن يلتفت الى كتاب "عطب
الولادة" للدكتور رانك وهو يحاول أن يدعم, من خلال تجربته الرحمية الذاتية.
يستخلص من تذكاراته التي جمعها على مدى الأشهر التسعة أن العالم الرحمي عالم
رحماني, فردوسي. ويفصل شكل الفردوس: عالم ملون. ترى أيتذكر هنا دالي وجه الفنان أم
وجه الانسان؟ وخلف هذه الالوان هي نبوءة رحمية عن مستقبله الملون, القائم على مزاجية
الالوان والاضواء؟
دالي لا يفصح وهو ولوع بالاضداد, فيرى أن الفردوس الرحمي
ذو لون جهنمي: أحمر, أصفر, برتقالي, أزرق, وهي الوان النار المتعددة, من غير شك.
ثم يضيف وصف الطبيعة الحياتية للرحم. فيقول أنه عالم رخو, ساكن, حار, متواز ولزج،
ومعتبرا أن الحياة التخييلية عند الانسان, تسعى, من جهة, الى إعادة تركيب, بشكل
رمزي للحياة الفردوسية الأولى من خلال المواقف التي يعيشها الانسان. ومن جهة اخرى,
تسعى الى تجاوز عطب الولادة الناجم عن الطرد القسري من الفردوس الرحمي, والانتقال
الصارم من مكان مغلق وآمن الى مكان آخر "مفلوش" ومعرض للأخطار.
وهو لا يكتفي بوصف ما رآه وعاشه بل يحلل, يتحول ذهنه الى
مبضع فيقول: "ان رغبة الموت ليست رغبة عديمة عند الانسان ولا وليدة انكار
روحي, بل هي رغبة في استعادة شيئ مفقود, لذة هاربة". والمنتحرون في رأيه هم
الذين يفشلون في تجاوز العطب وكسر حدة الشوق. فالنداء والاستغاثة بالأم في لحظات
الوجع, هما "محاولة ولادة مضادة", كما يقول, وعودة الى فردوس رحمي. وما
يوضح هذه الرغبة في العودة هي عادات بعض القبائل البدائية التي تدفن موتاها وفق
طقوس رحمية معينة. إذ أنهم يضعون الميت بشكل يقارب جدا وضعية الجنين في رحم أمه.
أما النوم فيرى دالي أنه ليس موتا مؤقتا, ولا راحة للجسد
بل هو استعادة لذلك الفردوس المفقود. لأن وضعية النائم شبيهة جدا بوضعية الجنين
ويقول أن لوحات كثيرة استوحاها من حياته الرحمية. بل كان أحيانا يحبس نفسه, يتزهّد,
كما يقول لمدة شهرين متواصلين في غرفة مغلقة, لا تتسرب إليها الأضواء ما عدا
الأضواء الكهربائية الخافتة. ويرسم ويرسم من وحي الذاكرة, محاولا الرجوع المؤقت
عبر الرسم والألوان, الى حياة ماضية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق