سانتوكا تانيدا (1882 ـ 1940)، واحد من أعظم شعراء اليابان، غريب الأطوار، تربى على فلسفة “الزنّ”، وحياته تتوازى مع حياة كهنة وشعراء “الزن” الأوائل أمثال ريوكان، أكيكو،… حياة بساطة وشرف، تخلو من أي استحواذ مادي أو مفاهيم جاهزة أو أعراف مجتمعية.
على رغم أن حياة سانتوكا بمعظمها تراجيدية: طفولة بائسة، أب لاهٍ واسع الثراء يطارد النساء مما دفع أمّسانتوكا للانتحار وهو صبي، ثم زواج فاشل لم يغرس في نفسه أي مودة، انغماس في خمرة الساكي، وينتابه انهيار عصبيّ حادّ ثلاث مرات،… فإن قصائده في الهايكو حيوية، متفائلة حيناً، وجنباً لجنبٍ مع الحزن الذي انتاب حياته.
نقطة التحول في حياته حين تم إنقاذه من محاولة انتحار أمام قطار هادر، اقتيد بعدها إلى هيكلٍ للزنّ قريبٍ. أثناء التمرّس بهذه العبادة، وجد سانتوكا معنى جديداً لحياته، ولو أنها كانت في عمرٍ متأخر (44 عاما). ومن حينها كرّس نفسَه لحياة روحية صارمة ككاهن مستجدّ.
عاش سانتوكا حياةَ فقرٍ مدقع، لكنه خلّص نفسَه من العوائق المادية والانفعالية ثم تجهّز بروحٍ متحرّرة لكتابةِ الهايكو كما لم يكتبه أحدٌ من قبل.
يقدّم (طعم الجبل) مجموعة ممثّلة تزيد عن 370 مقطعة من الهايكو، نقدمها هنا للمرة الأولى في اللغة العربية عن ترجمة جون ستيفنز الذي عاش في اليابان طويلاً وتمرّس كاهناً للزنّ أيضاً، بالإضافةِ إلى كونه عضواً بقسم الدراسات البوذية في معهد توهوكو بولاية سنداي.
تقترن فلسفة الزنّ بسمات (البساطة ـ العزلة ـ الانقطاع) وهي تظهر كلها بوضوح في قصائده. ليس الشعر عند الصين واليابان أكثر من عادة، ولذلك فإن الأوصاف مثل (الفقر ـ العزلة ـ التأمل) وغيرها كانت محضَ أعرافٍ مجتمعية. في حالة سانتوكا، فهذه السمات مجرّدة، فلا أحد كان أفقر منه ولا أكثر وحدةً أو أشدّ كَرباً. ومن ثم فالهايكو لديه حيٌّ، قاطع نحو لبّ الوجود. ليس ثمة انقسام بين الشعر والشاعر ولا بين الحياة والانفعالات.
تجسّد حياة سانتوكا روحَ فلسفةِ الزنّ في أشياءَ ثلاثةٍ:
– حياته وشعره شيء واحد، فمثاله “اللانفاق”. في أيّ فن أو نظام نجد أنه من الضروري التوحّد بين الفكرة والمنطوق والحدث. وهو كان كذلك.
– لم تكن محاكاة الآخر تخطُر على باله، ويندرُ هذا في أي مجتمع.
– لا مزيدَ في كلامه، لا ادّعاء، لا تصنّع. ويمكن فهمه على الفور دون احتياجك تفسيراً.
ولذلك جاءت مقطّعاته حادّة ومباشرةً، تلخّص تجربة الزنّ الصافية والخالية من أي تلوّنٍ فكريّ. إنه قريب منا على مستوى الفكر والمِزاج. ولسوف تشاركونه معي “رحلتَه الفريدة نحو أعماقِ قلبِ البشر”.
لـ سانتوكا عدة دواوين، منها: “طاسة المستجدي، 1932″، “العشب وشجرة بوذا، 1933″، “الغمر مع الأنهار والجبال، 1935″، “مشهد العشب، 1936″، “أوراق البرسيم، 1938″، “عزلة، 1939″، أما آخر دواوينه فكان “غربان، 1940”.
كان يقطع في كل رحلةِ حجٍّ أكثر من ثمانية وعشرين ألف ميل سيراً، أما أول رحلةٍ فقد قام بها ليُريحَ روح أمه المتعَبة، وبعدها:
«آهٍ، أيّ طريق أتّجه؟
تنفخُ الريح»
حياةٌ تنحصرُ في ضروراتٍ مجرّدة، لحظة حاضرة تخلو من الارتباطاتِ العادية أو الارتباكاتِ. وكأن حجته دائماً هي البحثُ عن البيتِ الحقيقِ.
سأله صحفي مرةً «لو عاش كل واحد مثلك فسيضطرب المجتمع»، فما كان منه إلا أن ردّ مبتسماً، قال «إنني واحدٌ من ثآليلِ هذا المجتمع، ثؤلولٌ أسودُ كبير على الوجهِ بشعٌ، ولو أضفت له آخر صغيراً فليسَت مشكلة. يتأثر الناس أحياناً بتشوّهاتهم الصغيرة. فكّر بي رجاءً على هذا النحو».
ومن يومياته نقتطف ما يلي:
* «لستُ غير كاهنٍ مستجَدّ. لاشيء تحكيه عني غير أني حاجّ أحمق قضى عمره كله يتجوّل كنبتةِ ماءٍوهي تنجرف من شطٍ إلى شط. يبدو هذا مؤسّياً، لكني أجد السعادةَ في مثل هذا العَوَز، وحياتي هادئة. الماء يندفق، والغمام يتحرك لا مستقرّ ولا ثابت. حين تنفخ الريحُ تسقط الأوراق. مثل أسماكٍ تعوم أو طير يحلق، أسير وأسير، قُدماً قُدماً».
* وقبل موته قال «سأبدأ رحلة. أودّ لو ألقي بنفسي في الطبيعةِ مرةً أخيرة. ليس عندي وقت طويل لأحيا، وأودّ لو أتحول لعصفور أو فيلٍ بريّ ذلك الذي يموت لوحده هادئاً في الحقول».
* حوار « دلّني على الطريق؟
– تحت قدميك. أمامك مباشرة. أنتَ تقفُ عليه الآن.
دلّني على العقل؟
– عقل كل يوم هو الطريق. حين يُقدَّم الشاي اشربه. حين تتزوّد بالأرز اطعَمه. احترِم والدَيك وحَصّن أولادك. ليس العقل ما في الخارج ولا الداخل».
* يومية: «ديانتي، هكذا:
تعاليمي ثلاثة: لا تبذّر، لا تغضَب، لا تشتكِ.
وعيدي ثلاثة: لا تجرّب المستحيل، لا تأسَ على ماضٍ، لا تلومنّ أحداً.
أفراحي ثلاثة: الدرس، التأمل، الهايكو».
* وقال «خمرة الساكي للجسد، والهايكو للقلب. خمرة الساكي هي هايكو الجسد، والهايكو هو خمرة الساكي للقلب».
* وقال «ليس الهايكو صرخةً، وعاءً، لهفةً أو تثاؤباً. بل نسيم الحياة العميق. في الشِعر نختبرُ الحياة دائماً، نصرخ أحياناً، لكن بدون أنين. يسقط الدمع حيناً ويندفق العرَق أحياناً، وفي كلّ مرة نذوق التجربةَ متعجّلين من غير أن تُعيقنا الظروف».
* وقال «الهايكو الحقّ هو روح الشِعر. أيّ شيء ليس حاضراً بالقلبِ ليس هايكو. القمر يتّقد، الأزهار تنبُت، الحشراتُ تزعَق، والماءُ يندفق. لا مكان هناك يعسُر أن تجد به أزهاراً أو تفكّر في القمر. ذلك جوهر الهايكو. فامشِ وراء حدود عصرك، انسَ الغرضَ أو المعنى وانفصل بذاتك عن محدّدات تاريخك – ستجد هناك جوهر الفن صِدقاً والدين والعلم».
* وقال «كلّ يوم أجد نفسي بمشقّة. لا أدري هل آكل اليوم أم لا. الموت قريب. الشيء الوحيد الذي أقدر عليه: أكتبُ شِعراً. حتى لو لم آكل أو أشرب فليس بإمكاني أن أكفّ عن كتابةِ الهايكو… بالنسبة لي، حياتي أن أكتبَ الهايكو، والهايكو حياتي».
– قَطع: هكذا تحدّث باشو، شاعر الهايكو الكبير:
«عند تأليفك الشِعرَ لا تدَع شَعرةً تُفلت من دماغك وأنت تكتب. لابدّ أن تؤلّف القصيدة في لحظة، كالمِنشار الذي ينقَضّ على شجرةٍ ضخمة، أو المُبارز الذي يثِبُ على عدوٍ زَنِيم».
* وقال «دربي اليوم عجيبٌ. أريد أن أمدّ صرختي للجبال، للبحر، والسماء. صوت الموج والطير والماء القُراح ممتنّ لكلّ شيء. لمعة الشمس نيّرة والحُجّاج يزدادون كلّ يوم. التذكارات، الجسور، المزارات، والانحدارات، كل شيء بديع. لكأنه أرزي من طعام النعيم».
* وقال «لا تتعلّق بماضٍ أو ترقُب غداً. امتنّ لليومِ، وفي هذا الكفاية. لا أومن بعالم الغد، كما أنكر الماضي. إيماني الحقّ بالحاضر. فأَنهِك جسدك والروح في الخالد الآن».
* وقال «يرتجي الغربُ غزو الجبل. يرتجي الشرقُ تأمّل الجبل. وأنا أرتجي طعمَ الجبل».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق