بدت لي دراسة اللغة الصينية في البداية كطريق مهيب مكلل بسحب
كثيفة رمادية اللون؛ كان من المستحيل أن أكتشف هذا الطريق بما فيه من خبرات ثمينة
بمجرد النظر إليه من بعيد، من دون السير فيه. لم يمض وقت طويل حتى تحولت تلك السحب
الضبابية إلى أنوار مضيئة براقة، تهدينى إلى التقدم بخطواتى إلى الأمام، وحينها
فهمت أن السير بثبات في دروب قد تبدو غامضة في بدايتها هو أساس المعرفة. قد يحتاج
العلم أحيانًا إلى نوع من المغامرة، التحدى، أو حتى الجنون.
أحببت
الثقافة الصينية وكانت بالنسبة إلي شيئًا يستحق أن أخوض من أجله تجربة تعلم
الصينية لاختراق حاجز اللغة الذى يتوارى خلفه كنوز من المعرفة. دعوني اعترف لكم
بشىء، حينما سؤلت في المحاضرة الأولى عن سبب دراستي للغة الصينية، حاولت الإجابة
بشكل مختلف ، فجاءت إجابتى استنادًا لما قراءته حينها عن صعود الصين وأنها
الإمبراطورية القادمة، وأن تعلم اللغة الصينية شىء سيتوجه إليه العالم أجلاً أم
عاجلاً .
التحقت
بالدفعة الأولى في قسم اللغة الصينية وآدابها جامعة القاهرة، وكانت أول سنة ينشأ
فيها، وكان يقتصر تدريسها في ذلك الحين على جامعتين فقط ، وهما الأزهر وعين شمس،
ومنذ ذلك الوقت وأنا آرى رؤية العين الإقبال المتزايد على دراسة اللغة الصينية ،
ففتحت العديد من أقسام اللغة الصينية في الجامعات المحافظات المختلفة، وتضاعف عدد
دارسيها، سواء في الجامعات أو المراكز الثقافية.
وفقًا
للإحصائيات فإن اللغة الصينية تعد أكثر لغة يتحدث بها الناس حول العالم في الوقت
الحالى، حيث ينطق بها بما يقرب من 1.28 مليار إنسان، وهو ما يشكل خُمس تعداد سكان
الأرض . واستناداً إلى حصائية نُشرت في صحيفة الشعب الصينية عام 2014 ، فإن
عدد دارسى اللغة الصينية حول العالم قد تجاوز المائة مليون، وعدد دارسيها الذين
أدوا امتحان تحديد مستوى اللغة الصينية عام 2013 وصل إلى 5 ملايين ، من 140 دولة
مختلفة، كما أن اللغة الصينية باتت تُدرس كلغة ثانية في المدارس في عديد من الدول.
ما
سبب موجة تعلم الصينية وانتشارها بهذا الشكل الملحوظ؟ ، هل تقتصر الأسباب على
الفضول أو الشغف تجاه لغة مختلفة غريبة مازالت تستخدم الرموز في قراءتها وكتابتها،
أم السبب هو الرغبة في اكتشاف أسرار الحضارة الصينية العريقة والتى ترجع إلى 5000
سنة، أم استعداد لاستقبال الامبراطورية القادمة وخاصة أنها تنطق بلغة صعبة مختلفة
تمامًا، أم بدافع تيسير المعاملات التجارية والاستثمارات والمشاريع الضخمة؟، حتما
فإن كل الأسباب السابقة حقيقية، ولكن أسباب الانتشار السريع لدراسة اللغة الصينية
حول العالم، ترجع إلى اهتمام الصين بنشر لغتها وثقافتها في شتى بقاع الأرض ، وهذا
مبني على إستراتيجية وخطة مدروسة، تمامًا كما تفعل في المجالات الصناعية والترويج
لمنتجاتها .
تهدف الصين
إلى جذب ألاف البشر إليها يوميًا، عن طريق وسائل الإعلام المختلفة، من الصحف
والمجلات الثقافية ،والمواقع الإخبارية، والقنوات الفضائية المتاحة بلغات متعددة:
كالعربية، الانجليزية، الفرنسية، الروسية وغيرها من اللغات. باتت الصين قادرة على
مخاطبة وعرض ثقافتها وتاريخها إلي عدد مهول من البشر، وبالتالي لم تعد في أعين
الكثيريين تلك البلاد البعيدة الغامضة، والتى تحتاج إلى مفتاح للغة لفهمها، ولكنها
باتت أقرب بكثير من ذى قبل، فقد وصل عدد السياح الوافديين إلى الصين عام 2014 إلى
128.4983 مليون سائح، وفقًا لما نُشر على موقع TRAVEL CHINA GUIDE .
دُعيت صيف العام الماضى للمشاركة في برنامج علماء الصينيات
الشباب 2015، وهو برنامج تحت رعاية وزارة الثقافة الصينية والأكاديمية الصينية
للعلوم الاجتماعية، تشارك فيه أكثر من 30 دولة حول العالم ، مما يتيح الفرصة
للمشاركين، للتقرب من كل من اللغة والثقافة الصينية، وتقديم الأبحاث في المجالات
المختلفة. كانت تجربة مختلفة وممتعة، تضم 36 مشاركًا ينتمون إلى خلفيات ثقافية
مختلفة، ولكن تجمعهم لغة تواصل واحدة هي “الصينية”، يستخدمونها في المشاركة وتبادل
الخبرات. حينها جال بخاطرى سؤال ، هل الشغف بتعلم اللغة الصينية كاف لانتشارها
،والمعروف بأنها من أصعب لغات العالم؟، ولكن سرعان وظهرت الإجابة جلية، وهي أن
الصين تهتم جدًا بكل من يدرس لغتها، وتتيح له فرصة التعرف على ثقافتها عن كثب، فهى
لست مجرد دولة قوية أقتصاديًا ، تخصص جزء من ميزانيتها السنوية لتقديم المنح
الدراسية، أو تنظيم أوجه النشاط كالبرامج والمؤتمرات، ولكنها تعمل بجدية من أجل
نشر لغتها وثقافتها على أوسع نطاق، وتدعم الدارسين في كل ما يحتاجون إليه لتسهيل
عملية الدراسة والبحث والترجمة. حينها سألت نفسى سؤالاً: مع كون اللغة العربية
واحدة من أكثر اللغات تحدثا في العالم، فكم دولة عربية تسعى لنشرها ، بكل ما تتمتع
بها من ثراء حضاري وثقافي ؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق