الأربعاء، 27 مايو 2015

توماس أديسون إذا غضب


أيّاً تكن قدرة المرء على كظم الغيظ فإنّه لا بدّ من أن يدفعه ظرف ما، في لحظة ما، على إظهار الغضب. ولكن المشكلة أنّ شكل الغاضب لا يختلف، في أحيان كثيرة، عن شكل المجنون. ويمكن لمن يريد ان يتأكد من تشابه الغضب والجنون أن يستعين بصديق لا يعرف المجاملة ولا "تمسيح الجوخ" وهو الكاميرا بشرط أن تكون خفيّة، تطارد الغضبان لحظة "انفجار" غضبه. يظنّ المشاهد، وخصوصاً إذا عزلنا الصوت عن الصورة، أنّه أمام شخص "جنّ جنونه".
ويمكن أيضا الاستعانة بالتعابير الشعبية الغنيّة، الكثيرة، للدلالة على القربى (الشكليّة) بين الغضبان والمجنون، فالغضبان يمكن أن يلجأ إلى تعابير طريفة تتيحها له اللغة وهي ليست دائما صوراً مجازيّة لأنّ بعض الغاضبين يعيدها، غصباً عنها، إلى حقيقتها، ويمارسها بكلّ حرفيّتها السورياليّة، فيقول: "حنتّف حالي" أو "حإطلع من تيابي" ( والخروج من الملابس يلجأ إليه كثيرون ممن أصيبت ناحية من أدمغتهم بعطب)، ويرى الغاضب أنّه من الأسهل عليه لضيق الوقت، ربّما، تمزيق الثياب بدلاً من خلعها فيقول "حخزّق تيابي"، وهو تحذير قد لا يظلّ مجرّد حكي وإنما ينتقل إلى الفعل أمام ذهول المشاهد أو عين الكاميرا الخفيّة، وبعض الناس حين يغضبون لا يخرجون من أثوابهم فقط وإنما من أديانهم أيضاً، فيقول الواحد منهم "حإطلع من ديني"، والخروج من الدين لا يقلّ غرابة عن الخروج من الثياب، فالعري الروحيّ لا يختلف عن العري الجسديّ. وقد يتطوّر الأمر إلى الانتقام من النفس والجسد معاً فيروح الغضبان يصارع جسده ويلطمه ويخمشه، فقد يجد أن إصابة الجسد ببعض الجروح أقلّ إيذاء من "سمّ البدن"، خصوصاً بعد أن تبيّن في الطبّ أنّ الغضب قد "يسمّ البدن" فعلاً إذ تفرز بعض الخلايا موادّ سامّة تنتشر في الجسم. والتعبير العاميّ يبرّر الغضب باعتباره "فشّة خلق" والفشّة تعني، حكماً، وجود ورم في الخلق قد يكون "خبيثاً" ولا بدّ من التخلّص منه عن طريق "فشّه" بأسرع ما يمكن.
قال لي أحد الأصدقاء إنّه حين يغضب يذهب، حتى لا يؤذي أحداً، إلى البرّية حيث لا يراه أحد، ويروح يصرخ ويسبّ ويلعن، ويحكي مع حاله. والصديق عاقل، ولكن لك أنْ تتخيّل لو أنّ بعض المارّة صادف هذا الصديق وهو يمارس غضبه "البرّيّ" في الهواء الطلق. ولقد ابتدعت جامعة "جياو تونغ" الصينيّة فكرة جديدة لا تختلف كثيراً عن فكرة صديقي إذ خصّصت قاعة أطلقت عليها اسم قاعة "احتواء الغضب" يطلق فيها الطلبة العنان لغضبهم، ويمارسون حريتهم في الصراخ، حتى تكلّ منهم الحناجر، كما رصّت على جدران القاعة أكياس رمل لتلقي لكمات الطلبة الغاضبين، والطريف بحسب الجريدة الصينية التي نقلت خبر القاعة تدفّق الطلبة على القاعة بحيث بات من الضروريّ حجز مكان مسبق لممارسة "نوبات الغضب".
لكن الطريقة الطريفة التي سمعت عنها هي تلك التي اعتمدها ساحر الإلكترونيّات، ومبتكر المصباح الكهربائي، توماس إديسون حين يغضب أو "يتكهرب"، إذ يروي أنّه غضب إحدى المرّات من شخص، فكظم غيظه إلى حين الوصول إلى البيت، وهناك لجأ إلى طريقة أدبية، إن صحّ التعبير، حيث بدأ بكتابة رسالة شديدة الإقذاع، وظلّ يكتب حتى استنزف آخر قطرة غضب، وكان قد قرّر إرسال الرسالة لمن كان السبب في إغضابه، ولكنّه انتبه إلى أنّ الغضب الذي كان يعتمل في نفسه قد سكت بمجرّد انتهائه من الكتابة، فأقلع عن إرسالها، وعمد إلى تمزيقها وتنتيفها، ثم رماها في سلّة المهملات بعد أن أدّت دورها، كورقة نشّاف، في امتصاص غضبه. ولا ريب في ان المكتوب يمتصّ المكبوت، ويؤدي إلى تفريغ شحنة الغضب بحسب ما يقول عالم النفس الفرنسيّ "باتريك آسْتْرادْ". يلبس الغاضب هنا، على الأقلّ، لباس الكاتب، ولا يمكن لكاميرا خفيّة مهما كانت عدستها خبيثة أن تلصق به تهمة الجنون.
وتمزيق ورقة يظلّ، في كلّ الأحيان، أقرب إلى الأذهان من تمزيق الثياب وتنتيف الأبدان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق