يروي المفكّر الفرنسيّ المرموق Régis
Debray رجيس
دبريه في مقدمة كتابه الجميل " حياة الصورة وموتها" (Vie et mort de l’image) حادثة طريفة وقعت في قصر أحد أباطرة الصين إذ
طلب الإمبراطور من أحد رسامي القصر محْو الشلاّل من إحدى اللوحات الجدارية لأنّ
خرير ماء الشلال في اللوحة يؤرق عينيه يمنعه من النوم! وهذه النادرة مع الصورة لها
أشباه كثيرة في الثقافة الصينية تشير إلى تلك العلاقة الغريبة التي تعقدها حواسّ
الصيني الخمس مع الصورة.
أردت من هذه الطرفة أنْ تكون مدخلا لحكاية أخرى رواها ابن بطوطة الذي
زار الصين وأقام فيها فترة من الزمن، وترك لنا مشاهداته وانطباعاته في رحلته
الشهيرة التي توارى اسمها الفعلي من الاستعمال وصرنا نكتفي باستخدام عبارة "
رحلة ابن بطوطة " للإشارة إليه، ولا بأس من التذكير باسم الرحلة الأساس
المعبّر عن فحواها وهو: " تحفة النظّار في غرائب الأمصار
وعجائب الأسفار". والكتاب، بالفعل، رحلة مشوّقة لا تخلو من التحف والغرائب
والعجائب. ويستفيد علماء الانتروبولوجيا والاجتماع ودارسو عادات الشعوب من محتويات
حكاياته التي تشبه الوثائق الحيّة ولقد ترجمت رحلته الممتعة إلى لغات عديدة
كالفرنسية والانكليزية والصينية.
كان ابن بطوطة يتكلّم على الصناعة في الصين، ونظرته مغايرة لنظرة
العرب الراهنين إلى الصناعة الصينية التي ترمز في نظرهم، اليوم، إلى الرخص وعدم
الإتقان. ولكن الصناعة الصينية بدأت فيما يبدو تستعيد ما كانت عليه في الماضي
القديم أيّام ابن بطوطة الذي قال: "إنّ الصين من أعظم الأمم إحكاماً للصناعات
وأشدّهم إتقاناً لها، وذلك مشهور من حالهم، قد وصفه الناس في تصانيفهم فأطنبوا
فيه". جاء كلام ابن بطوطة هذا في بداية كلامه على فنّ الرسم عند الصينيين.
ومن له إلمام بالفنّ الصيني يعرف مهارتهم في الرسم وقيمته الروحية في طقوس حياتهم
اليومية، وثمّة عبارة عربية تقول:" فضيلة العرب في لسانهم وفضيلة الصينيين في
يدهم"، فهم حرفيون من الطراز الأول، ولأصابعهم فصاحة ألسنة العرب وبيانها!
يقول ابن بطوطة:" وأمّا التصوير فلا يجاريهم أحد في إحكامه من الروم ولا من
سواهم فإنّ لهم فيه اقتداراً عظيماً". ولكن التصوير لم يكن لمجرّد الرسم بل
كان له مآرب أخرى كعصا موسى أمنية وتوثيقية وعمليّة. وقديماً قال المثل
الصيني:" الصورة تغني عن مليون كلمة". يروي ابن بطوطة حكايته مع الصورة
في الصين فيقول:" ومن عجيب ما شاهدت لهم من ذلك إني ما رأيت قطّ مدينة من
مدنهم ثم عدت إليها إلا ورأيت صورتي وصور أصحابي منقوشة في الحيطان والكواغد( أي
الورق الصيني) موضوعة في الأسواق. ولقد دخلت إلى مدينة السلطان فمررت على سوق
النقّاشين ووصلت إلى قصر السلطان مع أصحابي ونحن على زيّ العراقيين فلمّا عدت من
القصر عشيًّا مررت بالسوق المذكورة فرأيت صورتي وصور أصحابي منقوشة في كاغِدٍ قد
ألصقوه بالحائط، فجعل كلّ واحد منا ينظر إلى صورة صاحبه لا تخطىء شيئا من شبهه.
وذُكر لي أنّ السلطان أمرهم بذلك وأنّهم أتوا إلى قصره ونحن به فجعلوا ينظرون
الينا ويصوّرون صورنا، ونحن لا نشعر بذلك. وتلك عادتهم في تصوير كلّ من مرّ بهم.
وتنتهي حالهم في ذلك إنّ الغريب إذا فعل ما يوجب فراره عنهم بعثوا صورته إلى
البلاد وبُحِث عنه، فحيثما وجد شبه تلك الصورة أُخذ".
ولعلّ ما يقوله ابن بطوطة يؤكّد مقولة كنت قد قرأتها عن التجسّس
الصيني ومفادها: " إنّ الصينيّ
يتجسّس كما يتنفّس". والتجسّس، في أيّ حال، ضرورة أمنية ووسيلة دفاعية،
والدولة التي لا تعير جهاز تجسّسها الرعاية الكافية لا بدّ من الشكّ في حُكْمها
وحكمتها، ولا أعتقد أنّ أحداً يشكّ في حكمة بلد نسبت، منذ القدم، إليه الحكمة
المشرقيّة.
ولكن ثمّة نقطة لم يتناولها ابن بطوطة في حديثه عن الصورة إذ لم يذكر
لنا هل اشترى هو وأصحابه صورهم أم أبوا ذلك تجنباً من إثم يلطّخ أياديهم باعتبار
أنّ التصوير محرّم في الإسلام بحسب ما يذهب اليه بعض الفقهاء؟
ومن الطريف، في أيّ حال، البحث عن صورة وجه ابن بطوطة، ( ثمّة روايات
عديدة حبكتها الأساسية البحث عن مخطوطة!) في أسواق الصين ومتاحفها أو في سجلاتها
التاريخية التي كانت تسجّل كلّ شاردة وواردة داخل تخومها، فقد يتمّ العثور عليها
وتكون بذلك أوّل صورة مرسومة لرجل عربيّ تصل إلينا من وراء أسوار الصين وتكون، من
وحي مقطع من عنوان كتابه، " تحفة النظّار"، نتعرّف من خلالها على ملامح
ابن بطوطة الحقيقيّة بدل الاكتفاء بتأمّل ملامحه المتخيّلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق