الأربعاء، 13 مايو 2015

من حكايات الساموراي تسوكاهارا بوكيدن Tsukahara Bokuden




حياة الساموراي الياباني الحقيقية ليست اكثر من دروس في الحكمة. كنت أقرأ في كتاب عن " بوذية الزنّ" وهي بوذية روحية تأمّلية تدرّب المرء على الانتصار على الآخر عبر الانتصار على الذات، فاستوقفتني حكاية ساموراي يابانيّ شهير عاش في القرن السادس عشر لميلاد ويدعى تسوكاهارا بوكيدن  Tsukahara Bokuden( 1489- 1571)،  وهو ماهر الى أقصى حدّ في استعمال السيف ذي النصل البرّاق، وللسيف في اليابان حكايات تفوق حكايات السيف العربيّ، إلاّ أنّ الهدف من مهارته في استعمال السيف تكمن في أن لا يستعمله. لقد اتقن استخدامه لهدف غريب، هدف سوريالي في نظر كثير من الناس، والاّ ما معنى ان تكدح وتشقى في تعلّم استخدام شيء ثمّ تضع قدراتك جانباً؟  للسيف في اليابان روح خفيّة، وثمّة حكاية عن سيف كانت تتجنّبه حتّى اوراق الأشجار خوفاً من قدراته المختبئة في طيات لمعة نصله. ومن يريد ان يعرف جيّدا حياة الساموراي عليه بقراءة كتاب ممتع ترجمه المفكر الراحل نصر حامد ابو زيد، ونشر في دار الصباح بعنوان " البوشيدو" وتعني " صراط المحارب " مع ما تحمله كلمة الصراط في الحضارة الاسلاميّة من دلالات وارفة. .
ذات يوم، كان يعبر الساموراي بوكيدن في مركب بحيرة بيوا  琵琶湖القريبة من العاصمة اليابانية القديمة كيوتو، والمركب مكتظّ بالمزارعين والتجّار والحرفيين، وكان بين الركّاب ساموراي شابّ فخور بقدراته القتالية، فراح  يخبر الركاب بإنجازاته الخارقة في ميدان القتال، ومهاراته في استخدام السيف، وكان وهو يحكي عن مغامراته وبطولاته يلوّح بسيفه المسلط، فأنصت له الركّاب خوفاً من طيشه ونزق سيفه. كان بين الحضور بوكيدن يجلس جانباً متجاهلاً ما يقوله المقاتل الأرعن، وكان يبدو على بوكيدون انه مقاتل ساموراي، لكن لا احد كان يعرف انه الساموراي الشهير تسوكاهارا بوكيدن شخصيّاً، وهو من أشهر المقاتلين في زمنه. فلم يكن من هواياته عرض عضلاته القتالية حيث لا تستدعي الحاجة.
جلس بوكيدن مغمض العينين وبدا لمن رآه على تلك الهيئة انه غارق في التأمل. لكن سكونه وصمته بدآ يثيران غيظ الشابّ الذي صرخ في النهاية في وجهه، قائلاً: ألا تحبّ هذا النوع من الأحاديث، يبدو انك لا تعرف حتى كيف تستخدم السيف الذي معك، أليس كذلك ايها العجوز؟ فاجابه بوكيدن: بلى، اني احسن استخدامه ولكن لا احب استخدامه في ظروف كهذه. فرد الشابّ ساخراً: كفاك ترهات، انها طريقة في استخدام السيف من غير استعماله. ما هي مدرستك القتالية؟ اجاب العجوز انها مدرسة " موكيكاتسو – رو ( اي القتال دون سلاح)، فقال الشابّ: ولماذا تحمل السيف اذا كنت لا تستعمله؟ فردّ بوكيدون قائلاً: احمله لأضبط به أعصابي، وليس هدفي من حمله أن أَهزم أحداً ولكن أن لا أُهزم.  وهنا أشير الى ما قاله المفكّر الاسترتيجيّ الصينيّ " صون تزه"  في كتابه البديع " فنّ الحرب" وهو: " ان اعظم انتصار ذلك الذي تحقّقه قبل بدء المعركة "، انتصار له نتائج الحروب الدامية ولكن بفارق جوهريّ هو عدم اضطرارك لإسالة نقطة دم واحدة. استفزّ كلام العجوز أعصاب الشابّ المتبجح، فقال مستغرباً: كيف يمكنك ان تهزم خصماً من دون ان تقاتله؟
وطالب الشاب ان يمارس العجوز اسلوبه معه في هذا القتال. لكن الساموراي رفض القتال في مكان مزدحم بالناس، وما ذنب الركّاب ان يعيشوا حالة رعب لا علاقة لهم بها؟  ولكنه قال له: انه سيريه هذا النوع من القتال حين يصلان الى اقرب شاطىء، وطلب من القبطان ان يوصلهما الى جزيرة صغيرة على مقربة من  البحيرة. بدأ الشاب يلوح بسيفه على سبيل التمرين، ولكن العجوز ظلّ جالساً مغمض العينين كما كان، وكأنّ الامر لا يعنيه، ومع اقتراب القارب من الشاطىء قفز الشاب الذي كان قد بلغ الغضب منه مبلغه الى شاطىء الجزيرة، وقال:" هيا، انك بارع بقدر براعة رجل ميت، سأذيقك طعم نصل سيفي ايّها العجوز". ولكن الساموراي كان يعرف المثل الياباني الذي يقول:" السيّاف الماهر هو الذي لا يحتاج الى سحب سيفه من غمده".
اخذ بوكيدن وقته، فجزء من القتال بلا أدوات قتال هو ان تأخذ وقتك كاملاً، فالصبر سلاح فتّاك في أحيان كثيرة، وكانت برودة أعصاب الساموراي وسيلة مقصودة استخدمها الساموراي ليضاعف من توتر الشابّ ويزيد من منسوب غيظه، فراح الشابّ يطلق الشتائم في وجه العجوز البارد. اخيرا سلّم العجوز سيفه للقبطان، قائلاً: اسلوبي هو " الموكيكاتسو -  رو " أي القتال دون استخدام سيف ودون قتال، فلا حاجة بي للسيف، وبينما كان يتفوّه بهذه الكلمات اخذ المجذاف الطويل، وضغط بشدّة عليه مبعداً القارب بلمح البصر عن الشاطىء.
 راح الشاب يصرخ مطالبا بعودة القارب، لكن الساموراي خاطب الشابّ قائلاً: هذا ما يسمى النصر بلا قتال، اتحداك بأن تسبح في المياه، وتأتي إلى هنا.
رأى الركاب الشابّ يبتعد شيئاً فشيئاً قافزاً في مكانه ملوّحاً بيديه بينما صرخاته تخفت أكثر فأكثر، ثمّ بدأ الضحك يعمّ المكان. لقد عبّر الساموراي بطريقته عن أسلوب القتال بلا قتال.
لقد عرف الساموراي بوكيدن نفسيّة الشابّ، وأراد إعطاءه درساً في أخلاقيّات المسايف التي من شروطها امتلاك الأعصاب والقضاء على الادّعاء الأجوف. واراد ان يكسر منافسه المبارز ويذلّه ويحوله الى اضحوكة لركّاب القارب. هدوء الساموراي الظاهر كان طعما ابتلعه الشاب المتهوّر. اشتغل الساموراي على رفع منسوب غضب الشابّ، فغضبك أوّل عدوّ لك. عن الغضب مثل عامّي يقول:" طالع خلقو مانو شايف شي قدّامو". التعبير يقول بوضوح: ان الغاضب يتحوّل الى أعمى لا يرى. لقد أربك الساموراي بهدوئه أعصاب الفتى، شتّت ذهنه، استفزّه، المستفَزّ الأرعن يفقد اعصابه، ويفقد عينيه، ومن يفقد أعصابه يتحوّل الى كائن هشّ ورخو. حماس الشابّ دفعه الى القفز الى شاطىء الجزيرة من تلقاء نفسه، أي أنّه قفز الى الطعم  بقدميه، هذا ما كان يريده بالضبط الساموراي الماهر الذي يتحكّم بالظروف ولا يدع للظروف أن تشوّش عليه أو تلعب بقراراته وقدّراته. القارب ليس ساحة حرب. والركّاب ليسوا رهائن أو دروعاً بشريّة، ولم يرد الساموراي الحكيم أن يلطّخ بالدم عيون الركّاب.
بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق