الأحد، 24 مايو 2015

تاريخ العرب «افتراضي»؟!



بقلم: سوسن الأبطح

ليس بمستبعد أن يأتي يوم، نلتفت حولنا فلا نرى غير القفار، وسنضطر بعدها، لأن نلجأ إلى مواقع إنترنتية أجنبية لنتذكر ونتحسر على قلاعنا وقصورنا وأعمدتنا وأقواسنا كما قبورنا والنواويس، ومدننا الأثرية وأسواقنا التي أبيدت. وهناك من بدأ يعدّ لنا المواقع لشفائنا مستقبلاً، من مرض الحنين، ويزودها بما يلزم من المعلومات والصور للآثار المفقودة.
فبعد تدمير مدينة نمرود ومتحف الموصل، وحرق أسواق حلب، ونبش قبر ابن الأثير، والتمثيل بأبي تمام، وتحطيم تمثال الموسيقي والملحن عثمان الموصلي والقضاء على الأضرحة، ومهاجمة الكنائس القديمة، وتفجير المقامات، وصلت المعاول إلى مدينة تدمر. الصراخ والعويل الآتي من كل جهة، لن يجدي نفعًا، أمام إرادة التخريب. نيكولا ساركوزي القابع وراء جهازه الإلكتروني يطالب من باريس «بإنقاذ تدمر بكل الوسائل»، لأنه لا يستطيع أن يقبل برؤية «حضارتنا تحطم أمام أعيننا» لا يملك أكثر من إنشاء بلاغي لا طائل تحته، ومطالبة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند بـ«جنيف جديد»، لعقد اتفاق سلام بين السوريين، يبدو كصرخة في واد، بينما المعارك تحتدم على مشارف حمص ودمشق، و«داعش» يفوز بنصف سوريا بدلاً عن معارضة «عاقلة»، و«حكيمة»، و«وطنية»، طالما أن كلمة «معتدلة» لم تعد تعني شيئًا. حتى اليونيسكو بإرادتها الطيبة ستكون عاجزة تمامًا، حين يقرر «داعش» إعمال معاوله في المدينة الرمز التي تختزل ألفي سنة من التاريخ البشري.
رغم «أن البعض يستبعد الكارثة، لأنها ستكون أكبر من أن يحتمل مسؤوليتها أحد، فإن التجربة مع هذا التنظيم، تظهر كم هو بحاجة إلى إثارة الضجيج الإعلامي، وتوزيع الصور الصادمة التي تنتشر كالنار في الهشيم، والأشرطة المثيرة التي تظهر رجاله الأشداء وهم يقومون بما لا يجرؤ عليه غيرهم. هذا عدا المراهنة، على أن الاحتماء بالأماكن الأثرية سيكون الوسيلة الأنجع لحماية مقاتلي التنظيم، حيث لن يجازف أحد بقصف التاريخ وإبادته.
تدمر التي وصفها الخليفة الأموي مروان بن محمد بأنها «جنة الذهب والماس» مهددة، لأن النفاق في التعاطي مع «داعش» بلغ قدرًا مهينًا منذ أكثر من سنة. الأميركيون يتحدثون عن آلاف المقاتلين الداعشيين الذين يقولون إنهم قضوا عليهم، بينما الصحافة الأميركية تعود لتمد قراءها بأرقام لعدد هائل من المتطوعين الأجانب الذين يفلحون في اختراق الحدود للالتحاق بالتنظيم، يفوق كثيرًا أولئك الذين قيل إنهم قُتلوا. وكأنما ما تفتك به الطائرات من السماء، تعوضه الأرض والحدود المستباحة. آلاف الطلعات الجوية، بدل أن تحسر تمدد «داعش» جعلته يتمكن من السيطرة على كل المعابر البرية بين سوريا والعراق، ويستحوذ على الغالبية الساحقة من آبار النفط والغاز السورية، ويصبح سيد تدمر، وهو الموسوم بعار السبايا والتنكيل بالنساء. هل تصبح عاصمة زنوبيا، المرأة الأبية التي قاتلت الرومان حتى آخر رمق، وفدت سيادة بلدها بكل ما امتلكت، وبقيت مرفوعة الرأس حرة، رافضة أي مساومة مع الغرب على مملكتها، موطئًا جديدًا لاسترقاق النساء واستعبادهن؟
يقال في الأسطورة إن تدمر بناها الجن، ويحكى أيضا أن الملك سليمان لم يجد غيرها مكانًا لشفاء زوجته من دائها العضال، كما يروى أن اسمها آتٍ من لفظة «تطمر» كونها «طمرت» ست مرات بالمياه، وعادت إليها الحياة، ورأى في اسمها المتنبي كما بشار بن برد ما يوحي بـ«الدمار» لا بـ«العمار». تدمر المنبجسة من قلب الحكايات، قصتها لا تزال طويلة ومديدة، منها سيتحدد تاريخ سوريا، الذي يبدو مائلاً إلى تقسيم قد يودي بما حولها بالتشظي والتفتت. من تدمر القابعة في وسط سوريا، والمفتوحة على كل الاتجاهات والاحتمالات، قد يزحف «داعش» إلى حيث يختار أن «يتمدد ويبقى»، وبحجته، وبناءً على سمعته و«ممارساته البربرية» كما وصفها ساركوزي، قد تجد سوريا نفسها منساقة إلى حيث لم تتمنَ.
ما بات واضحًا أن الخراب متواصل، وأن تدمر على مشارف كارثة، وإن كان الحلم أن تبقى المخاوف مجرد كابوس عابر، إلا أن مشروعًا أوروبيًا يأخذ السيناريو المجنون على محمل الجد. وقد تم تجيير برنامج «الإرث الثقافي بتقنية الديجيتال» الذي يطور لحفظ نسخ افتراضية من القطع الأثرية، ولو جزئيًا في الوقت الحالي، لأرشفة ما أمكن من القطع الأثرية والمواقع التي ضاعت أو هي مهددة بالاندثار في البلدين العربيين المنكوبين. الفكرة ولدت مع نشر الفيديو الوحشي، لتهشيم محتويات متحف الموصل. الموقع طالب حينها، في فبراير (شباط) الماضي، كل من لديه صور لهذه القطع الأثرية أن يضعها على الموقع، وبمقدور برنامج خاص، إعادة بنائها ثلاثية الأبعاد، وشبيهة إلى حد بعيد بالنسخ الأصل. مع وصول الخطر إلى تدمر، صارت تلك التي التقطت لـ«لؤلؤة الصحراء» أولوية لضمان عدم فقدانها وإلى الأبد. المشروع يطمح إلى إقامة «متحف افتراضي» صغير بديلاً لذاك الذي يمتد على مساحة سوريا والعراق، قلب العالم القديم ونبضه التاريخي. يبدو أن هناك من يرى بأم العين، آثارنا تمحى من الوجود، ويريد أن يستبق الكارثة، بينما نحن هنا، رغم الظلام الدامس، لا نزال نحتفظ بأمل، لعله مراوغ وكاذب، ونغني لتدمر «نجمة المشارق»، ونردد وراء فيروز وهي تصرخ في وجه الإمبراطور الروماني، بلا مبالاة وهي تقول: «أورليانوس: تدمر اللي انكسرت وروما اللي انتصرت تنينتهن حجار، وإنت وأنا تمثالين بساحة الآثار». «قولوا للشعرا يكمّلوا الأشعار وقولوا للثوار يضلهن ثوار».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق