الاثنين، 11 مايو 2015

الفايسبوك ان حكى


حين نتكلّم على الفايسبوك أو غيره من المواقع المشابهة فنحن نتكلّم عن واقع افتراضيّ وقد يكون واقعاً واقعيّاً، أو واقعاً افتراضيّاً له سطوة واقعيّة. الممتع في أمر مواقع التواصل الاجتماعيّ هو أنّها تمنح من يسبح في فضائها حرّيّة شبه مطلقة، حرّيّة في التحرّر حتّى من نفسه وهواجسه وهلاوسه. واقع تكتبه أنت بمشيئتك، لا يرغمك أحد على اتباع هذا الاتجاه أو ذاك. أنت حين تدخل إلى عالم "الفايسبوك" تدخل إلى عالم يختلط فيه الواقع بالخيال اختلاطاً بهيّاً فلا تعرف أين يبدأ الخيال، ولا أين ينتهي الواقع إذ يرفع الحاجز الشفّاف بين العالمين. وكما في عالم الواقع خداع خفيّ أو جليّ كذلك الأمر في العالم الافتراضيّ، بل إنّ الخداع على الفايسبوك أو غيره يأخذ حرّية تضع وراء ظهرها كلّ القيود الاجتماعية والعادات والتقاليد. أنت تخترع تقاليدك وعاداتك لتهرب من قيود مجتمع صارم أو تهرب من عيون بصّاصة. لفت نظري دراسة تقول إنّ السعودية هي من أكثر الدول العربية استخداماً للمدوّنات، هل لهذه المسألة صلة بالضغط الاجتماعيّ على المواطن السعوديّ الشابّ الذي لا يستطيع أن يتمرّد على عادات مجتمعه فيلجأ إلى العالم الافتراضيّ ليمارس حياته كما يريد هو لا كما تريد عاداته وتقاليده الضاغطة؟

من الأمور الطريفة أنّ الشخص، أحياناً، يغيب عن الصورة، لا يضع صورته لأسباب متعددة، منها: الذكريات، الحاجة إلى حنان أبويّ مفتقد، رغاب مؤجلّة أو عصيّة، كأن ترى شخصاً يضع صورة أبيه الراحل مثلاً، صورة أناس ماتوا قبل ولادة الفايسبوك وقبل ولادة الانترنت تراهم على الشاشات. ترى ابناً بمناسبة ذكرى رحيل أبيه او أخيه يستبدل وجهه بوجه الراحل. هنا تفرض الصورة وجودها على مسرى الكتابات والتعليقات فترى الرحمات تتدفّق من نقرات الكيبورد، وقد تكون الفتاة صاحبة الموقع لا تؤمن بجمالها أو قدرتها على الإغواء فتستبدل وجهها بوجه آخر قد لا يكون معروفاً لديك. وما تفعله الفتاة يفعله الشابّ أيضاً. الكلّ يتشابه في مجرّات الانترنت. يتحرّر الإنسان في الانترنت إذا شاء من وجهه ويلبس وجهاً آخر. ويعيش حياتين: حياة لم يختر بها ملامح وجهه ولا مراحل عمره، وأخرى هي من تصميمه وإنتاجه. أنت متحرّر من العمر ما دام وجهك، في الموقع، متغيّراً يتجوّل في الزمن كما يحلو له. وقد يكون وجهك هو وجه آخر لا تربطك به صلة رحم، كأن تجد وجه سياسيّ بارز راحل أو فاعل بدل وجه صاحب الموقع. والوجه، هنا، هو موقف سياسيّ. من وجوههم تعرفونهم حتّى ولو لم ينبسوا ببنت شفة.

والطريف أنّ الوجوه الأصليّة، أحياناً، تكون متوارية، فهي قطعة من وجه، بروفيل غير مكتمل، وكأنّ مواجهة الجمهور بوجه كامل يحدّ من المقدرة او الحرية في تناول مواضيع ساخنة أو حسّاسة. لفتت نظري صورة من المسلسل التركيّ "العشق الممنوع" تابعه كثير من اللبنانيين بحماس كبير، بطلته فتاة جميلة اسمها "سمر" وبطله فتى وسيم اسمه " مهنّد"، ولتبيان سلطان هذا الممثّل على الفتيات أنقل تعبيراً ساخراً وجارحاً خرج من فم رجل دين وهو أننا صرنا "أمّة مهنّد" بعد أن كنّا "أمّة محمّد". إحدى الفتيات قرّرت أن تحجب وجهها عن المشهد فلم تضع صورتها وإنّما وضعت صورة "سمر" و"مهنّد" في مشهد رومانسيّ شفّاف وهي فتاة مراهقة، بريئة، ولكن الصورة من عالم ليس عالمها، ومن حياة ليست حياتها، ربّما لو كانت الصورة نفسها من مسلسل آخر لما حملت المعنى نفسه الذي تحمله هنا، والسبب أنّ العلاقة بين" مهنّد" و "سمر" هي علاقة حبّ غير منكور، ولكنّه حبّ خائن خيانة مزدوجة. فـ"مهنّد" يخون الخبز والملح، يخون من هو بمقام والده، من خلال بناء علاقة محرّمة مع زوجة من احتضن يتمَه. وهي أي "سمر" لا تنتهك عرض زوجها بممارسة الخيانة فقط، وإنّما تخون، أيضاً، المكان بحكم أنّ بيتها الزوجيّ هو الذي كان مسرح خيانتها الفاقعة. حاولت أن أفقه السبب الذي يدفع بفتاة مراهقة تمجّ الخيانة الى اختيار صورة وجهين خائنين لتكون بدلاً من صورتها؟ وعليه كان لا بدّ من جعل الصورة الواحدة صورتين: صورة هي بنت المسلسل والأحداث( الصورة المرذولة)، وصورة أخرى لا علاقة لها بالمسلسل ولا بالأحداث (الصورة المقبولة). الأولى صورة ملعونة، فيها تدمير لعائلة وتحطيم لقلوب، والصورة الثانية معزولة لا علاقة لها بالأحداث ولا بالخيانات، وإنّما بالجمال والوسامة والفتنة. هنا "مهنّد" شاب وسيم يخطف نظرات الفتيات، و" سمر" فتات تفتن عيون الشباب. الخيانة توارت عن الأنظار. انشقاق الأمر إلى شقّين: واحد مقبول، وآخر مرذول. كنت قد سمعت شبيهاً له في عالم الأصوات. هناك تعبير يقول:" إنّ صوت المرأة عورة". ولكن المرأة تضطرّ، أحياناً، أنْ تحكي مع الغرباء. فكيف تحكي دون أن يرتكب فمها إثماً صوتيّاً؟ وهل من الممكن أن يخرج صوتها من فمها دون أن يخرج ملوّثاً بالحرمانيّة؟ نحن نعرف أنّ الصوت ليس شيئاً واحداً. الصوت هو هويّة ومعنى أي أنّه يمكنك أن تعرف المتكلّم من صوته، والعورة تكمن هنا أي أنها تكمن في الصوت لا في المعنى الذي يحمله الصوت. الكلام شيء، والصوت شيء آخر. كيف؟ هل هذا ممكن؟ ألا يبدّل الإنسان، أحياناً، صوته دون أن يغيّر كلامه؟ حين لا يريد أنْ يعرفه أحد من صوته يضع قطعة قماش، مثلاً، على شفتيه فتخرج الكلمات من شفتيه ولكن لا يخرج صوته أي هويته الصوتيّة من شفتيه بحكم أنّك لا تعود تعرف من المتكلّم وإن كنت تعرف ما قال، وهكذا كانت تفعل المرأة التي تعتقد أنّ صوتها عورة. تضع طرف كمّها في فمها وتحكي. يمرّ الكلام بسلام دون أن تُتّهم شفتاها بارتكاب المعصية. ألا تشبه صورة "مهنّد وسمر"، إلى حدّ ما، صورة الصوت الذي حُيّد عنه الإثم؟

نادراً ما اكتفت الأشياء بدلالة واحدة، وهذه التعدّديّة في الدّلالة هي ما تسمح باختيار دلالة متوارية على حساب دلالة ظاهرة لا قيمة لظهورها، ولا قيمة لسطورها، وإنّما القيمة الفعليّة للمتواري خلف كواليس المعاني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق