الثلاثاء، 19 مايو 2015

عابر سرير بروكست

عنوان المقال مقتبس بحذافيره من اسم رواية كتبتها الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي، ولكن ليس هناك أي صلة نسب بين «سرير» المقال وتفاصيل الحكاية التي تسردها أحلام مستغانمي، كما أنه ليس هناك أي معنى خبيث مندسّ في طيّات ما يحمله السرير في ذاكرته الوثيرة من مارج الألوان. قد يستغرب القارئ، لأول وهلة، حين يعلم ان حكاية المقال تروي قصة قاطع طريق دخل سجل التاريخ من خروم أسلاك سرير. أشكال قطع الطرقات عديدة، وذاكرة اللبناني لا تزال تحمل صوراً طرية الملامح عن أشكال قطع الطرقات وهي أشكال ملفعة بالدم والتراب، ومتّشحة بسواد الدواليب المحترقة. الحكاية الراهنة مأخوذة من أسطورة قديمة يعود عمرها الى أيام العز في الفكر اليوناني، أي أنها من الحكايات التي قد يكون أتى على ذكرها هيرودوت أبو التاريخ.
الحكاية تروي سيرة حياة لص. وقاطع الطريق هو، بشكل من الأشكال، لص، قد يسرق ما معك وما عليك، وقد يسلبك روحك. بعض اللصوص مرضى يحتاجون لعلاج نفسي أقلّه لتعليمهم أخلاقيات السرقة! دون زيادة او نقصان، لأن البعض لا تنتشي روحه إلاّ اذا تحوّل الى سادي تتلمّظ نظراته لرؤية المسروق المستباح جثة هامدة وممثَّلاً بها، أي أنه يتعامل معها كما لو أنها خشبة مسرح مرتجل يمارس عليها كل الأدوار النزقة التي لا تخطر ببال إبليس او خيال مخرجي أفلام هوليوود.
كان قاطع الطريق يسمى «بْروكوست»، ويعني الاسم باليونانية «من يقوم بالتطريق» على شاكلة ما يفعله النحاس من تطريق لقطعة النحاس بغية ترقيقها وتطويعها. بروكوست لقب حمله قاطع الطريق، واللقب غلاّب. ولعل في اللقب الذي التهم اسم قاطع الطريق الحقيقي ما يدل على بعض ما تنطوي عليه تفاصيل الحكاية.
كان بروكوست يعترض العابرين المتعبين من مشقات الطريق ويستدرجهم بلسان يقطر عسلاً، ويعرض عليهم، بمنتهى اللطافة والدماثة، الاستراحة او المبيت عنده. كان تعب الطريق يغري أجساد العابرين بملذات الراحة الموعودة.
يفرض بروكوست على الضيف، في بيته، ان يتمدّد على سرير سحري لأنه يستحيل على أي مخلوق ان يكون طوله على مقاس طول ذلك السرير. وعليه، فالعابر إما ان يكون أطول منه فيضطر الى ثني ساقيه وإما ان يكون قصير القامة فتظل فراغات بين قدميه ونهاية السرير. السبيل الوحيد لإفلات الرجل من مخالب السرير الحديدية هو ان لا يفيض عنه او يقصر، لأن هوس بروكوست كان قص الفائض من الأطراف. ولكن في حال كان المُمدّد على السرير قصيراً فإن بروكوست يعمد الى مط جسده حتى يرضي نزوات السرير السفّاح. كان الموت في الحالين مصير من يقع فريسة سرير بروكوست المنهوم، إذ بحكم واقع السرير السحري ما كان يمكن لجسد أحد ان ينزل، حفراً وتنزيلاً، في السرير وينجو بأطرافه من أفانين القص والمط.
صدف ان وقع بين يدي «بروكوست» رجل استطاع التفلّت من المصير الذي يرسمه السرير على جسد الممدّدين عليه. لم يرض الرجل من الغنيمة بالإياب وإنما أرغم، بجبروت عضلاته، بروكوست نفسه على التمدّد فوق السرير. كانت قامة بروكوست أطول من السرير، فما كان من الرجل إلاّ ان جزّ رأس بروكوست حتى تتناسب قامته مع طول السرير. لم تكن قاعدة السرير الصارمة تعترف بالاستثناءات الفضفاضة. راوي الحكاية يستغرب، في طيّات السرد، كيف أنه لم يخطر ببال بروكوست، قاطع الرؤوس والأرجل والطرقات، ان يفصّل السرير على مقاسه، عسى ولعل. فالدنيا دولاب دوّار والزمن غدّار وهذا ما سها عنه، فيما يبدو، بروكوست الذي قلّص الدنيا الى حجم سرير جهنمي.
كثيرون يرون في «سرير بروكوست» مجازات غنية لأشياء وارفة الدلالات. منهم من يرى السرير «فكرة غير قابلة للنمو». ومنهم من يراه إيديولوجيا «مُحكمة الإغلاق» لم تدرس سيرة حياة الأعشاب الريانة التي تهزأ بهستيريا الأعاصير. عبارة «سرير بروكوست» يستعملها علماء نفس ومحللون سياسيون للتدليل والتنديد بذلك الذي يريد ان يمدّد كل من يخالفه الرأي او يختلف معه في وجهة نظره على «سرير بروكوست»، لأنه يستأثر وحده، في ظنه، بصوابية الأفكار. ويريد صب آراء الناس، كل الناس، في قالب واحد يكبّل الأنفاس، وكأنه من طلائع ما يمكن ان يبشّر به عالم الاستنساخ من فظائع.
ثمة نقّاد يعتبرون ان القراءات النقدية والتاريخية لا تختلف كثيراً، لدى من يقرأ بعين واحدة، عن السلوك الذي اعتمده بروكوست لأنها تقص من أوصال النص او أطراف الخبر ما يحلو لها ليصير متن النص النازف والمبتور على مقاس الفكرة الجاهزة في ذهن القارئ.
هل يختلف، في أي حال، أسير فكرة واحدة عن أسير «سرير بروكوست» الشبيه بمشرحة الأحياء؟ وهل من فرق بين أسير فكرة مبتورة الأطراف ومصير بروكوست الذي لم تختلف نهايته القانية عن مصائر ضحاياه؟.
الله أعلم!.نشر المقال في جريدة الانشاء 23 ايار من عام 2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق