إذا نظر احدنا إلى الأمور المأساوية نظرة جاحظيّة، قالوا له: " فالج
لا تعالج". وهذا مثل كسول، لا يحرّض على التطور الطبّي، ولا النهوض الفكريّ.
لذا لا مفرّ من اعتقال كل الأمثال المنسوجة على هذا المنوال، ووضعها في سابع أرض،
إذا أردنا تحرير الإنسان العربي، والعقل العربي، قبل الأرض العربية. فالإنسان،
أولا وأخيرا وفي كل حين، أهم من الأرض.
الأمر المأساوي الأكثر شراسة، في حياتنا، هو علاقتنا بـ
"القراءة". هذه الكلمة السحرية، التي تملك خصائص كيميائية قادرة على
تغيير حال التردي. لماذا نحن أمة لا تقرأ؟ لماذا نركض إلى الجهاد ركضا بمعناه
العسكري، أو السياسي أو الدينيّ، ولا نركض إلى الجهاد بالقراءة ؟! أليست القراءة
هي المشروع الإسلامي الأوّل الذي غيّر مسار الصحراء العربية، وانعطف بالعالم
انعطافته المعروفة؟ أليست القراءة هي العنوان العريض للرسالة الإسلامية من خلال
الاسم المقدّس"القرآن"؟ والكلمة،
فيما أظنّ، شفّافة كالبلّور. ان كلمة"القرآن " لا تختلف عن"
القراءة" من حيث طبيعتها اللغوية، فكلتاهما مصدر لفعل واحد " قرأ".
أي ان لفظ "القرآن" من حيث هو مفردة كان لها حياتها الدنيوية العادية
قبل ان تتحوّل بأمر الآهيّ إلى مفردة ولود ذات فرادة، وقبل ان تصبح على كل شفة
ولسان في كل منطقة يذكر فيها اسم الرحمان. كان العلاّمة جلال الدين السيّوطي
يقول:"القرآن مفجّر العلوم". ولم يحدّد طبيعة هذه العلوم. كل العلوم
حلال زلال، من الوجهة الإسلامية السليمة، ولا حياء في دين أو علم، لأن الإنسان
مغامرة علمية في الأرض، دون حصر لمغامراته. الفضاء، كل الفضاء، سِفر الآهيّ مفتوح
علينا ان نقرأ سوره ونتقرّى آياته وعبره، لنتعبّد تعبّدا يعبّد لنا طريق النهوض.
الإنسان، عملا بمقولة " الحكمة ضالّة المؤمن"، مخلوق للبحث عن
الحكمة الإلهية في هذا الكون المدهش، المحكم الصنع الذي لخّصه اينشتاين بعبارة:
" ان الله لا يلعب بالنرد". ولا قدرة للإنسان، اليوم، ان يعرف حكمة
الخالق إلا بالقراءة. وهو ما أشار إليه رب العالمين بالكلمة الأولى في كتابه
الكريم، "اقرأ"، آية دالّة، فهي الأمر الإلهي الأوّل، الأمر الذي لا
يلتفت إليه المتعبّدون إلا نادرا، ظنّا منهم ان المعنى محصور في قراءة القرآن،
وهيهات! انّ السياق الديني، وأسباب النزول، لا تنسجم مع ما يذهبون إليه، لان
القرآن لم ينزل، دفعة واحدة، إلى الأرض، أي أن الأمر بالقراءة لم يكن موجّها، حصرا،
إلى قراءة القرآن، أو قراءة ما يعرف بالعلوم الدينية فقط، وإنما لمآرب أخرى، (
ولنا عبرة بمآرب عصا موسى).لا ريب ان البداهة من ألد أعداء الذهن البشري، ومن لا
يحذر طيبة قلب البداهات تسحبه كالخروف من غير ان يدري إلى التهلكات.
أعزو، بمنتهى البساطة، إلى عدم
القراءة سبب ضياع الأندلس، وسرقة فلسطين، وإخفاق مشروع النهضة العربية، وانهيار
النظام العراقي، وتبعثر الجامعة العربية،
والتعصّب الأعشى، والسرد يطول. وبالمقابل لا يمكن عزو دخول الاستعمار إلى بلادنا
طورا بالدبابات الحديدية، وطورا آخر بالقفّازات الحريريّة إلا إلى عدم القراءة، لا
مفرّ من قراءة الوقائع والذات العربية الجريح قراءة نقدية يقظة، والكفّ عن الإيمان
بالخرافات ورمي كرة الانتكاسات في ملعب المؤامرات. الغرب يتآمر علينا، كلمة حق
يراد بها (تواكل) باطل، ما كان بامكانه ان يتآمر علينا لو أننا أمّة التزمت بفحوى
الآية الباهرة "اقرأ"، فنحن، اليوم، أمّة تسخّف الأشياء، توهن المقاصد،
تلعب بمصيرها لعبة الهرّ بكبكوبة صوف، وحين نختنق نطلب الخلاص دائما من الآخرين لا
من أنفسنا، لأننا لا نقرأ، نقضي وقتنا في تحريف الوظائف وتقليص طاقاتها، ولنا عبرة
في الاستخدامات الهشّة للحاسوب، والخليوي، والانترنت. بعضنا حوّل الحاسوب إلى
طاولة بليارد، أو لعبة ورق، يكفي ان تلقي نظرة عجلى في محلات الانترنت، حتى ترى
العجب العجاب، دردشة من"فجّ وغميق" أشبه بالطعنة النجلاء في قلب الوقت،
ونادرا ما وقعت عينك على شخص يتجوّل في معارف الانترنت المذهلة، أما الخليوي فانه
تحوّل إلى" أداة تفنيص"، لا إلى أداة تواصل أو تخليص من مأزق داهم، وهو
يذكرني بحمل المسدس في زمن الحرب. أرأيتم ماذا يفعل بنا عدم القراءة؟ألا يضع تقليص
طاقات هذه الابتكارات الرائعة إلى الحد الأدنى مستخدميها في الحدود الدنيا. كل
الاختراعات بريئة والخبث يكمن في الاستعمال والمقاصد.
أشير إلى ناحية أخرى ذات صلة بالقراءة وهي ربط القراءة بالورق أو الكتاب،
تحديدا، عند اغلب الناس، ان هذا الحصر ظلم لمعنى القراءة وإهانة لها، وعدم أدراك
لدلالات فعل القراءة وحيويته، لان القراءة، اليوم، لم تعد تتقيّد بكتاب أو مجلة أو
جريدة، إنها قراءة كل حرف مكتوب، بغض النظر عن طبيعة المادة التي تحمل هذه الحروف،
فقد تكون حجرا أو كيس خيش، وقد تكون حائطا أو يافطة، وحتى شاشة كمبيوتر بعد ان أصبحنا في الزمن
الضوئي والقراءة الضوئية. وهذا ما فهمته جدا، في أي حال، اليابان. كل نص مكتوب
قابل للقراءة، من الممكن ان يكون هذا النص كلمة، أو جملة، أو مجموعة جمل. والقراءة
تغيّر حقيقة من مسار الذهن، ترمّم الجوانب المتهدمة في الشخصية أو البدن. ولكننا
لا نقرأ حتى ما لا يضني الخاطر، كم عدد من
يقرأ، على سبيل المثال، ما يكتب على أوعية البضائع المستهلكة؟وهي قراءة ناجعة،
تعرّفنا، في الأقل، ما نأكل وما نلبس، وما نشرب. ليست الدعوة إلى القراءة دعوة إلى
قراءة أرسطو، أو المتنبي، أو ابن سينا، أو غيرهم من أفذاذ العقول بل هي دعوة إلى
فعل القراءة الضرورية، البراغماتية. كل واحد يقرأ ضمن ميدان عمله اليومي كخطوة
أولى، فليقرأ الاسكافي، مثلا، في كتب تخص مصلحته، سوف يدرك انه كان لا يعرف كيف
يتعامل مع الجلد والخيط والمسمار، وليقرأ بائع الثياب عن أنواع الأقمشة، وعن
معاملة الزبائن، ولا يكتفي بحصافته الفطرية، فالفطرة الإنسانية دون الفطرة
الحيوانية حنكة وحصافة، ولسوف يدرك، إذا ما قرأ، كمّ الأمور التي غابت عن ذهنه
زمنا طويلا.
وضعنا الاقتصادي سيء لأنّنا أمّة
لا تقرأ، ولا يعني هذا عدم لوم أصحاب القرار في العالم العربي. الكلّ ملام، والكل
مدان، لان المسؤولية جماعية غير محصورة في فئة أو طبقة. ان القراءة بمثابة خيط
السبحة الذي ينتظم حبّاتنا المتناثرة، ويحصّن الداخل المتداعي، ويرمّم الأحلام
المكسرة، و يرفع الأعلام المنكسة، وينجز الأفراح المؤجلة، ويحقّق الكرامة المعلّقة،
ويحرر العقل المعتقل. كان موشي دايان يقول:" لا خوف علينا من العرب، لأنهم لا
يقرأون ". موشي دايان ما يزال على حقّ. ولن يعيد إلينا الحقّ المسلوب، إلا
قراءة "المكتوب" لا الرضوخ" للمكتوب"، لان امة لا تقرأ امة لا
تبرأ ولا تبرع. لن يبقى بمكنة احد، إذا ما شفينا من عداوتنا للمقروء، ان يلعب بنا،
كما يلعب الهرّ بفأر مذعور.
اودّ الاشارة هنا إلى فكرتين تظهران الدور الجلل الذي تلعبه القراءة في
حياة الناس. الفكرة الأولى هي عن" الببليوثيرابيا " أو العلاج بالقراءة،
وهو علم حديث النشأة، من صنع الولايات المتحدة الاميركية التي نلعنها ليل نهار،
يقوم على التنسيق العميق بين الطبيب والخبير بالكتب لإنقاذ الناس وشفائهم من
الأمراض. ( ونحن أمّة مريضة ومهيضة !)، والتجارب حول هذا العلم اظهرت نتائج مذهلة.
والفكرة الثانية لغوية عربية تأثيليّة (أي قراءة لسيرة كلمة) حيث نلحظ الصلة
الدلالية الوثقى بين القراءة وبين الخصوبة أو التلقيح، من خلال العلاقة الجذرية
المرئية بين" القراءة" و"القرء" المذكورة في القرآن الكريم،
ولكن نادرا ما نربط بينها وبين فعل القراءة، فعل الخصب الفكري، والامتلاء الروحي،
والرخاء المادي.
وحتى لا يقول لي قائل: وماذا فعلت
بكتاب الحياة؟ أقول كتاب الحياة يمثل
الوجه الآخر للقراءة. ووجهة نظري فيما يتعلق بهذا الأخير منبثقة من فيلم "
انتبهوا أيّها السادة"الذي قام ببطولته محمود ياسين(الزبّال الثريّ) وحسين
فهمي (أستاذ الفلسفة الجامعي الساذج). ولي إليه عودة، تحت عنوان الأميّة، هذا الشر
المستطير، الآخر، الذي يأكل أخضرنا، ويرمي ماءنا الفرات في بحرنا الملّوث.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق