جورج بوهاس
استاذ اللغة العربية في جامعة باريس الثامنة يعكف وزميله جان باتريك غيوّم استاذ
الادب العربي في جامعة باريس الثالثة على نقل عمل ادبي من اضخم الاعمال الادبية في
اللغة العربية الى اللغة الفرنسية, وهو سيرة الظاهر بيبرس قاهر المغول, وداحر
الفرنجة, تتم الترجمة مباشرة عن طريق مخطوطة من مئات الكراريس, ويناهز تعداد
صفحاتها 36 الف صفحة تحتضن كنزا فريدا, وذكريات عن ايام زمان, حين كان الحكواتي
ينعش ليالي السمر. ويعتبر بوهاس ترجمتها انجازا كبيرا لانها تعرف الغرب على وجه شرقي
آخر, غير وجه شهرزاد, كما انه يأمل ان تثير ترجمته شهية تعرّف العربي على ادبه
الشعبي الغني بالخيال والجمال. والتقته "الاسبوع العربي" ليحدثها عن
سيرة بيبرس والادب الشعبي وكان هذا الحوار.
كيف
تمت معرفتك لمخطوطة الظاهر بيبرس؟
لفد عرفت بوجود
المخطوطة عن طريق العالم السوري شفيق امام حين كان مديرا لمتحف الفنون والتقاليد
الشعبية في دمشق, ويعود اليه الفضل في جمع وحفظ المخطوطة وكان يثير موضوعا امام
زوار سوريا من المستعربين, ولكن فيما يبدو لم يثر المخطوطا فضول احد. كان رد فعل
الاغلبية كما قال لي ابتسامة, تدل للأسف على استخفاف بالنص وعدم ادراك لقيمته,
وحين تحدث معي عن المخطوطة طلبت منه قسما منها, ورحت اقلب صفحاتها واقرأها واحاول
استعادة صورة الحكواتي الذي كان يحيي الشخصيات بنبراته وحركاته, فوجدت نفسي امام
كنز بكل منى الكلمة, تحفة ترقى الى مصاف الادب العالمي. هكذا اراها.
هل كانت اكتشافا بالنسبة اليك؟
هي اكتشاف
بمعنى ما, ولكنها ليست اكتشاف اميركا بالطبع؛ اي انها كانت معروفة وان بشكل مشوه.
فالمنشور منها مبتسر, وهو في افضل الاحوال مختصر. ولو اني وجدت المخطوطة على شاكلة
المنشور لشعرت بنوع من الاحباط, وتراجعت عن احلام الترجمة. فالمنشور منها مقلوب
رأسا على عقب. ويخيل لي أن الناشر او الذي اعدها للنشر, لا يعرف او غير ضليع في فن
القص, فغير النص, كسر تسلسله المنطقي واعاد تصنيفه من جديد. فاللهجات الكثيرة حذفت
او فصحت رغم ما للهجات من قيمة.
متى
ظهرت سيرة الظاهر بيبرس؟
نواة السيرة
تعود الى القرن السادس عشر. والطريف فيها هو ان شخصياتها تعود الى عصر يختلف عن
العصر الذي كتبت فيه. انها تحكي عن بطل مملوكي ولكن المجتمع الذي تصوره لنا هو
المجتمع العثماني. التباس الازمنة ظاهرة تدخلنا عالم الخيال.
الظاهر
بيبرس تحول في السيرة الى اسطورة خيالية...
هذه روعة
السيرة. احيانا اتساءل: لماذا تحول هو الى اسطورة وليس صلاح الدين, ولكن السيرة
على اسطوريتها لا تخلو من وقائع حقيقية, واخرى معدلة. بين بيبرس التاريخ وبيبرس
الخيال جسور اتصال. ولكن الخلافات كثيرة تبدأ من ولادة الظاهر. ففي السيرة هو ابن
ملك, وجده الاول هو ابراهيم الأدهم رجل متصوف. يروي لنا التاريخ ان ابراهيم الادهم
انسان عاش حقيقة, ولكن لا علاقة له بالظاهر بيبرس. غير ان المهم في السيرة اعطاؤها
المسحة الصوفية. والمعروف ان الظاهر بيبرس خطف من روسيا, مجهول الاب والام. ولكن
ربط الخيال الشعبي بالواقع يضفي حيوية على القصة, واما بالنسبة للسلطان ابراهيم
الادهم, فهناك قصة طريفة ما زالت حية الى الآن في بلاد الشام, ولكن لا احد يعرف
مصدرها. وهي قصة سمكة "سلطان ابراهيم". سيرة الظاهر بيبرس تروى لنا
حكايتها. فإبراهيم كان ملكا ولكنه ترك ملكه وتزهد وعاش سائحا بالمعنى الصوفي, الى
ان وصل الى جبلة, واستقر فيها. ومرة "كان قاعدا قبالة البحر, وبيده ابرة يخيط
بها ثوبه العتيق فتطلع "حمرة من دم القمل" كما جاء في النص. واذا بامه
التي كانت تبحث عنه لتعيده الى نفسه والى ملكه, تراه على حالته الرثة وتحاول
اقناعه, فيرمي الابرة في البحر, واذا بسمكة - امام عيني امه – تخرج من البحر
والابرة في فمها وتأتي الى السلطان ابراهيم وتضع الابرة امامه. ومن يومها تعرف
السمك باسمه. بالمناسبة فإن قبر السلطان ابراهيم موجود في جبلة وهو مزار الى الآن.
هذه القصة تشير الى مدى تغلغل الخرافات وكرامات الاولياء في النص, فضلا عن الحياة
الشعبية.
ما
هو موقع سيرة بيبرس بالنسبة للأدب الشعبي؟
انها من اهم
السير الشعبية, كانت تحكى في الاحياء الشعبية الى عهد قريب. وانا رأيت في احد
مقاهي دمشق حكواتيا يحاول انقاذ هذا الفن من الانقراض, لا سيما بعد هجمة التلفزيون
والراديو. وحتى اعطيك فكرة عن قيمة الظاهر بيبرس اذكر لك احصاء عن عدد الحكواتيين
في القاهرة علم 1830. واكن الحكواتيين ينقسمون الى ثلاثة انواع: الشعراء وعددهم
خمسون كانوا يحكون سيرة بني هلال, والمحدثون يحكون سيرة الظاهر وعددهم ثلاثون,
والعنترية المتخصصون بحكاية سيرة عنترة وعددهم ستة.
لماذا كتبت في رأيك هذه السيرة؟
ان سيرة الظاهر بيبرس اكتملت في القرنين الثامن
عشر والتاسع عشر وكان لدى العرب احساس واضح بتفوق الغرب. وكانت السيرة بمثابة
مواجهة فنية ونفسية للغرب الناهض, انها عملية اسقاط, اظهار ان الغرب ليس الاقوى
على الدوام. فالظاهر بيبرس دحر الفرنجة واوقف الهجمة المغولية وهذا يعني ان الغرب
ممكن دحره, وهذا ما يجسد من خلال مثال الظاهر بيبرس.
وما
الهدف من ترجمتها خصوصا ان حجمها المديد - في زمن السرعة – قد يكون عقبة امام
قراءتها؟
الهدف الاول هو
لفت النظر الى الادب الشعبي. فمنذ زمن بعيد ونحن نجتر الف ليلة وليلة وكأن ليس
هناك غيرها, وقد خصت باكثر من عشرين ترجمة, وانا اعتبر ذلك اضاعة جهد لا بد من
الالتفات الى اشياء أخرى, عنترة, ذات الهمة, سيرة الارقط وغيرها... اعتبر اننا
قمنا بخطوة مهمة, فتحنا طريقا للعمل في الادب الشعبي. اذ لا بد من التخلص من
الاحكام المسبقة التي تشوه نظرتنا لهذا الادب. تصفح الموسوعة الاسلامية تشهد طريقة
الحكم الجائرة. يحكم فقط على اللغة ولكن الادب ليس محض لغة, ولكن يبدو ان
المستشرقين تأثروا بوجهة النظر العربية وتبنوها. الادب الشعبي هو الذي يترجم. انظر
الى كتاب البخلاء, انه كتاب رائع وساخر لا ريب في ذلك, وقارنه بالترجمة التي قام
بها شارل بلا, وهو احد كبار المستشرقين. لقد خسر الكتاب سحره. حاولت ان اقرأ
الترجمة, قرأت عشرة صفحات ثم توقف لانه لم يضحكني, اما سيرة بيبرس فلا يمل منها
القارئ. فهي ادب قابل للنقل, ويحتفظ بنكهته. كذلك الامر في ترجمة المعلقات. على
العرب ان يعوا الى العالمي في ادبهم هو ما يحترفونه. قصدت الادب الشعبي, ليس من
السهل التصريح بهذا بعض اصدقائي السوريين يقولون لي باستغراب, كيف تعمل في هكذا
موضوع. استغرق الوقت في ادب سيء. فأرد عليهم: ادب سيء لانكم تأتونه بحكم رافض
سلفا. الدخول اليه بحيادية وموضوعية يرينا كنوزه.
البعض يقرأ الادب العربي بالسر؛
قراءة سرية,
هذا ما يحدث للادب البورنوغرافي عندنا. ابتذال الادب الشعبي شيء يدعو للأسف, ولكنه
يعكس ازمة اللغة العربية. اذا سألت عربيا هل تحكي العربية, يتردد قبل ان يجيب: ليس
جيدا, السؤال عينه تطرحه على فرنسي يجيب قورا: بالتأكيد, فهي لغتي.
ما
هي الاهمية اللغوية لسيرة بيبرس؟
اهميتها في
نوعيتها, واخذها من العامية والفصحى على السواء. وتعدد مستوى الكلام لعبة فنية
ماهرة, فهناك فقرات ترقى الى مستوى رفيع من ناحية الاسلوب, لا سيما في وصف المعارك
حيث السجع يأتي لتكثيف الوصف وتجسيده. كما تكثر المفرادات التقنية التي تدل على
مهارة الكاتب. ولكل شخصية لهجة خاصة بها. فالعيارون لغتهم واقعية جدا. كما ان
السيرة معجم للهجات مدن عربية عدة, خصوصا القاهرة وحلب. وفضلا عن ذلك تحفل السيرة
بتعابير كان يستعملها الفرنجة تفيدنا في الدراسة الاجتماعية, وكذلك هناك لغة
البحار المشتركة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على مدى البحر المتوسط اضافة
الى المفردات التركية المدرجة في بعض سياقات السيرة. من هنا ارى ان السيرة كنز على
غير صعيد.
هل من مشروع لدراسة كل هذه الظواهر اللغوية؟
دراسة الناحية
اللغوية مشروع منفصل عن الترجمة. ولا يمكننا القيام بها قبل الانتهاء من الترجمة.
ولكن مما لا شك فيه ان الدراسة اللغوية تزودنا بفكرة صادقة وجيدة عن وضع اللغة
العربية, وعلاقتها مع غيرها من اللغات, ابان كتابة السيرة, اي في الفترة السابقة
للنهضة. في اي حال, اقترح على الطلاب الذين يتخصصون في الدراسات العربية مواضيع من
القصص الشعبية, فلا يجوز ابقاء هذا الكنز بعيدا عن الدراسات الاكاديمية.
يلحظ
القارئ الترجمة ان بعض الكلمات لم يترجم...
هذا صحيح ولكنه
نادر. والسبب اننا لم نستطع فهم معناها لاسباب عدة, منها انها ليست بنت القواميس,
ولان السياق الذي وردت فيه لم يوضح لنا معناها المباشر, وهي اغلب الاحيان عبارة عن
مسبات وصفات وتعابير فرنجية وتركية, فضلنا ابقاءها بانتظار اكتشاف معناها, فما زال
امامنا عدد هائل من الصفحات, وربما تجلو لنا ما غمض عنا. فليس من السهل حل كل
المشكلات المخطوطة.
في
النص الاصلي تتداخل اللهجة العامية بالفصحى وهذا ما نراه في الترجمة...؟
حاولنا الحفاظ
في الترجمة على مستوى اللغة في الاصل, فحيث الشعر (وهو قليل) تختار لغة شعرية,
وحين ننقل كلام الخاصة نحاول ان نأتي بما يضاهيه. مشروعنا في البدء كان الابتعاد
والتحرر من الاسلوب الذي اعتمد في ترجمة الف ليلة وليلة حيث اللغة مفعمة بالاحلام
الشرقية. نحن قلنا اننا نترجم لابن القرن العشرين, لم نفكر بالخلود لهذه الترجمة
ولغة الترجمة بشكل عام كانت شبيهة باللغة المستعملة في الاعمال الروائية.
كيف
تلقى القارئ الفرنسي هذا العمل؟
لقد نفد الجزء
الاول من الترجمة, وهذا يعني ان القارئ تلاقها بشكل جيد. ولكن بالتأكيد الفرنسي
الملم بالثقافة العربية يقبل عليها بمتعة لآلفة الجو بالنسبة اليه.
ذكرت
في البدء, ان النص العربي المطبوع مختصر, ومشوه فهل من مشروع لنشر المخطوطة
بالعربية؟
نود نشرها
بالعربية, وفي فرنسا, الامر ليس سهلا لان الكلفة مرتفعة جدا من جهة, ولان الناشر
يخاف من عمليت القرصنة من جهة ثانية. اما نشرها في الدول العربية, فأمر مستبعد, اذ
لا اظن ان ناشرا عربيا يملك الجرأة على نشر السيرة كاملة, دون خذف وتطهير, فنحن ضد
تطهير النص, ننشره كما هو, في اي حال, نشرت مقتطفات في مجلات عدة سوف تظهر قريبا
في لبنان قطعة من السيرة في كتاب تذكاري مهدى الى الكاتب فؤاد افرام البستاني.
في
رأيك, هل تساعد ترجمة سيرة بيبرس على الاهتمام بها عربيا؟
مشكلة العربي
شبيهة بمشكلة الاوروبي مع الامريكي. كل ما يأتينا من اميركا نتبناه. وهكذا العربي
وأرجو في اي حال ان يهتم العربي بسيرة الظاهر بيبرس ويكتشف غناها ويدرك اخيرا قيمة
تراثه الشعبي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق