الأربعاء، 13 مايو 2015

حكاية كاتسو كايشوKatsu Kaishū باليابانية: 勝 海 舟‏



يستأنس المرء بين وقتٍ وآخرَ بقراءة أخبار الآخرين وسيرهم. ولقد استوقفني خبر، في سيرة يابانيّ، عن علاقته مع الكتب. اسم الرجل "كاتْسُو كايْشُو"، كان في صباه فقيراً معدماً لا يملك ثمن كتاب، ولكن عدم امتلاك ثمن كتاب ما، لا يعني استحالة قراءته. المستحيل مفردة تحتاج إلى إعادة تعريف باستمرار، لأنّ المستحيل نسبيّ ومتغيّر، وظِلُّ سلطانه يتقلّص يوماً بعد يوم.

عاش كاتْسُو كايْشُو في الفترة الحرجة من حياة اليابان (1823-1899)، فترة الانفتاح على الغرب، والخروج من ثلاثمائة سنة من العزلة الخانقة والانطواء الطوعيّ. عاش مخاض انتقال السلطة من يد "الشوغون" أو ما يشبه يد "أمراء الطوائف" إلى يد الإمبراطور "مايْجي"، باني نهضة اليابان.

كانت الهولنديّة، ( قرأت فيما بعد اسباب وجود الهولندية في اليابان بسبب المرافىء) في ذلك الوقت، هي لغة العلم الغربيّ في اليابان، أي أنّها كانت بمثابة الشُّرْفَةِ الوحيدة المطلّة على الغرب بإنجازاته الفكريّة والعلميّة، وعليه كان كلّ من يريد تحسين موقعه العلميّ يهتمّ باللغة الهولنديّة. أراد الفقير كاتْسُو اكتساب هذه اللغة، والمعروف أنّ الإنسان لا يكتسب لغة ما اكتساباً محكماً إلاّ بواسطة أدوات متعدّدة منها لا ريب معجم ثنائيّ يميط اللثام عن الكلام المعتم. وقع تحت نظر كاتْسو معجماً موسوعيّاً ثنائيّ اللغة من ثمانيةٍ وخمسينَ مجلّداً، وكان هذا المعجم في حوزة أحد الأطبّاء.وقد سمح الطبيب لكاتْسُو باستعارة المعجم لمعالجة ضعفه اللغويّ، فكان يستعير في كلّ مرّة مجلّداً ويقوم بنسخ نسختين، استغرق النَّسْخ منه سنة كاملة. قد ينطوي عمل نسختين من المعجم على بعض غرابة، ولكن ما يزيل هذه الغرابة هو أنّ النُّسْخة الثانية كانت معدّة للبيع بهدف توفير مبلغ لشراء هديّة امتنان وشكر للطبيب.

وحصل أيضاً أن لفت نظر كاتْسُو كتاب هولنديّ له صلة بالأمور العسكريّة، فأراد شراءه لكنّ ثمنه يتجاوز قدرة جيبه الضيّقة، فراح "يقرمط" على حاله بغية اقتنائه. وكانت فرحته بعد توفّر المبلغ تفوق عدد حروف الكتاب، أخيراً سيقضي معه فترة من الوقت خصبة. ذهب إلى المكتبة وطلب الكتاب، كان جواب الكُتُبِيّ(بائع الكتب) صادماً وصاعقاً، لقد بيع الكتاب ولا توجد منه نسخة أخرى. لم يندب كاتسو حظّه أو ييأس، لم يقلْ: ليس لي نصيب في قراءته. يريد قراءة الكتاب ولا شيء يقدر أنْ يعيق تحقيق رغبته. طلب من الكتبيّ اسم الشاري وعنوانه، ذهب إليه، وكان الشاري عسكريّاً. حكى كاتْسو للعسكريّ معاناته في توفير المبلغ لشراء الكتاب ثم طلب منه أن يبيعه إيّاه فرفض، تنازل كاتسو واكتفى بطلب استعارته إلاّ أنّ نظريّة العسكريّ، فيما يبدو، تترجمها مقولة مفادها "أحمقُ مَنْ يُعير، وأحمقُ مَنْ يُعيد". لم يتراجعْ كاتْسو وقال للعسكريّ: "أنت بحاجة إلى الكتاب حين تقرأ فيه ولكنّك لست بحاجة إليه حين تنام، فاسمح لي بقراءته أثناء فترة نومك". أشفق العسكريّ، إزاء هذا الإصرار، على كاتْسو فأذعن لرغباته العلميّة قائلاً له:" أنا أنام في العاشرة مساء فأسمح لك بقراءته من العاشرة إلى طلوع الفجر، والكتاب أثير لديّ، لا يمكنني إخراجه من المنزل، فاقرأه عندي إن أحببت". وهكذا كان كاتْسو يذهب كلّ عشيّة إلى بيت العسكريّ الذي يبعد ستّة كيلومترات عن مسكنه ويقضي الليل ناسخاً صفحات الكتاب، ولقد استغرق النَّسْخ ستّة أشهر. في اليوم الأخير، طلب كاتْسو، بعد شكر العسكريّ، تفسير مسألتين غمضتا عليه. بهت العسكريّ لأنّه لم يقرأ الكتاب كلّه بعد، كما تعجّب من دقّة كاتْسو ومثابرته على إحياء الليل في نسخ الكتاب وتَفْلِيَتِهِ فأصرّ عليه بقبول الكتاب هديّة معتبراً أنْ لا أحد يستحقّه أكثر منه.

الملفت في حياة كاتْسو أنّه أضحى رجلاً عسكرياًّ وسياسيّاً ودبلوماسيّاً بامتياز إذ استلم قيادة القوّات المسلّحة في اليابان، وأعاد تنظيم ترسانتها البحريّة، كما استطاع بحنكته السياسيّة ودهائه الدبلوماسيّ أن ينقذ اليابان، في فترة الانتقال والاضطراب، من حرب أهليّة كادت تطحن أرخبيل اليابان جزيرةً جزيرةً. ولكاتسو كلمات وطنيّة وسياسيّة مأثورة لا تقيم للأنانيّة العمياء والحمقاء وزناً منها "إنّ عافية الأمّة أهمّ، في نظري، من أيّ منصب".

كثيرون في لبنان، اليوم، يمسكون في أياديهم الراجفة قلوبهم الواجفة من أنْ تتعدّى الحرب التي تشنّها أفواه السياسيّين وألسنة أنصارهم- إلى أيّ شهر من الشهور الملوّنة انتمَوْا- حدود الشفاه. ولا أعرف ما إذا كان التفات السياسيّين في بلادنا إلى نَسْخ معجم "لسان العرب" لابن منظور مثلاً، أو معجم "تاج العروس" للزَّبِيْدِيِّ، أو موسوعة المؤرّخ البريطانيّ اليَقِظِ أرنولد توينبي " دراسة في التاريخ " كفيلاً بفسخ عقد الفتنة وعودة لبنان إلى روض من رياض الصلح تتقن كتابة الحياة لا محوها!


بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق