السبت، 9 مايو 2015

فلاّحو الهند وسمك الكونغو



سأتناول في هذا المقال نقطتين، وهما: فلاحو الهند والكمبيوتر، ثمّ صيادات السمك في الكونغو والهاتف الجوّال. متابع اخبار التكنولوجيا يعرف ان الهند خزّان في ميدان التكنولوجيا، اهتمامها بالكمبيوتر وأدوات التواصل الرقمية مذهل. وهناك من يقسم العالم الراهن قسمين على منوال تقسيم الكمبيوتر إلى قسمين" هارد وير" و" سوفت وير". ومن يقوم في تقسيم العالم على هذا المنوال يعتقد أنّ الهند تمثل الـ"سوفت وير" في حين أنّ الصين هي "هارد وير" العالم الراهن.

خطر ببال أحد مهندسي الكمبيوتر في الهند، صنع جهاز كمبيوتر مخصّص للأمّيين وهم كثر في الهند بسعر زهيد جدّاً لا يتجاوز العشرين دولاراً، وهو كمبيوتر يُسقط اللغة من حسابه، معمول مخصوصاً لمن لا يفكّ الحرف، وكان هدفه من هذا الكمبيوتر اعطاء المزارعين والفلاحين والناس البسطاء فرصة تكنولوجيّة لتصريف بضائعهم. قامت قيامة الجمعيات التي تسعى الى تحسين مستوى التعليم في الهند ومحو اللامية، وقالوا له: انت بمشروعك هذا تقضي على كلّ ما بنيناه في سبيل محو الأمية؟ ولكنّه استمر في سعيه ونزل الكمبيوتر الى السوق، كمبيوتر لا يعيش تحت رحمة الأبجدية أو الكلمات، حاسوب كلّه صور وأرقام، ومن حسنات الارقام ان كل الناس حتى الأغبياء جدّاً يحسنون التعامل معها فمن لا يعرف الألف من الخمسين ألفا مثلاً ولا يختلف أمر الصور عن أمر الأرقام.

فرح الأمّيون بهذه اليد التكنولوجية السحرية التي مدّت لهم وسهلت لهم معرفة السوق، وسهّلت لهم مهمة تصريف حصادهم بأفضل الاسعار. ماذا كانت النتيجة؟ تقليص عدد الأميين في الهند. ما السبب غير المتوقع الذي حطّم آراء كثير من علماء الاجتماع في الهند، لا أحد يتصور فرحة ذلك المهندس وهو يتأمّل خيبة أمل الذين عارضوا مشروعه. ولكن كيف دفعهم الحاسوب الذي لا صلة له بالكلام الى الاقبال منقطع النظير على معاهد محو الأمّية، وهي المعاهد نمفسها التي كانوا ينفرون منها؟ كان الحاسوب يعمل بالأيقونات والصور، كلّه صور، صورة التفاحة تغني عن كلمة تفاحة، الصور تسحب البساط من تحت الكلمات وتستغني عن خدماتها. ولكن ما الذي دفع الفلاحين إلى التعلّم؟ إنّها الأرباح. الجيبة أذُن تحسن الإصغاء جيّداً، خاطبْ جيبة الناس ولا تخاطب عقولهم، وستتكفل الجيبة البراغماتية بتغيير سلوك العقل. جيبة من يستمع إليك أدرى بمصلحتها من شفتيك.

السبب بسيط جدّا، قال الفلاح: إنّ هذا الجهاز سحريّ، أرباحي أنا الأمّي زادت. صار الفلاّح يعرف أسعار تداول البضائع في السوق، اكتسب خبرة إضافيّة في فنّ العرض والطلب، فطرح على نفسه سؤالاً بسيطاً: اذا كنت أمّياً وربحت ما ربحت، فكيف سيكون حالي لو تعلمت فكّ الحرف؟ حكما أرباحي ستزداد، أغرته جيبته بتغيير علاقته مع الحرف وازدحمت مراكز محو الأمّية بالراغبين في استئصال الأمّية من حياتهم المهنيّة وبدأت الأمية بالتقلص.

 أعرف شخصاً لا يحبّ القراءة. ولكن هل من لا يحبّ القراءة لا يحبها فعلاً. كيف أميز من يحبّ ممّن لا يحب؟ اردت إثبات أنّ هذا الشخص الذي لا يحبّ القراءة يعشق القراءة وقد ينسى نفسه بين دفتي كتاب. ورحت أراقب عينيه وهما تتجولان في سطور كتاب غير مصوّر، كتاب من كلمات لا غير، وراح يلتهم حروفه ويضحك. كنت اتأمل تغير تعابير وجهه من بعد، وانفراج أساريره وهو يتقدّم خطوة خطوة في سطور الكتاب، كيف يقرأ شخص كتاباً بلهفة ولا يحب القراءة؟ كيف يقرأ شخص لم يسبق له أن قرأ  على امتداد عمره كتاباً من الجلدة إلى الجلدة؟ الفضل للشيخ محمّد النفزاويّ، والفضل لكتابه "الروض العاطر في نزهة الخاطر"، وهو كتاب من التراث العربيّ، ولكنّه من الكتب الممنوعة، من الكتب التي تتناول شؤوناً جنسيّة. لقد مسّ الكتاب اهتماماً ما من اهتماماته. العلّة ليست في القراءة وإنّما في المقروء. هناك فخّ على الأنظمة أن تعمل على نصبه لإيقاع من لا يقرأ في شهوة القراءة وشراكها الفاتن.

على المرء ان لا ينسى دور اللامتوقع في تغيير طريقة العين في النظر إلى الاشياء، كسر رتابة العينين ينقذ المرء من الحياة الرتيبة.

انتقل إلى نقطة ثانية، وأطرحها في صيغة سؤال؟

ما هو الدور الذي يلعبه الهاتف الجوّال في صيد السمك في الكونغو؟ هل بمقدور هاتف جوّال أن يغير علاقتي كصيّاد بالسمكة، والزبائن؟ وهل بمقدور الهاتف أن يخفف عني عبء تكاليف تبريد السمك المعروض للبيع ؟

لقد غير الهاتف الجوّال طبيعة صيد السمك في الكونغو، لم يعد سوق السمك في سوق السمك وانّما في البحر والنهر.

هذا ما قرأته في كتاب جميل جدّاً لكلّ من إريك شميدت وهو الرئيس التنفيذي لشركة غوغل، وجاريد كوين "مدير أفكار" غوغل، والكتاب بعنوان " العصر الرقمي الجديد" . الكتاب يدرس التغيّرات التي انتجها العصر الرقمي على كلّ الصعد، السياسية والاقتصادية والنفسية والاجتماعية، والتحولات التي تشهدها حواسنا وعلاقاتنا، ونحن نعرف ان مفاهيم كثيرة بدأت تتغير . هل مفهوم " الانتظار" مثلاً هو نفسه؟ كان الانتظار قاتلاً، يبطيء سير الوقت. كان وقت الانتظار وقتاً لدى الغالبية يتلف الأعصاب ويهدر الأوقات، أمّا اليوم فمع الهاتف الجوّال صار الانتظار فرصة للمتعة الإضافيةبفضل الشاشة الصغيرة التي ترافق راحة اليد.

استوقفني حكاية الصيّادات في الكونغو، وكيف أنّ الهاتف قلب حياتهم رأساً على عقب. فلقد كنّ  أي الصيّادات معتادات على احضار صيدهن اليوميّ الى السوق ومشاهدته وهو يفسد مع مرور النهار، صرن اليوم يحتفظن به في النهر، يقول المثل:" ما حدا بيشتري سمك ببحرو".دحض الواقع في الكونغو بفضل الهاتف الجوّال الاستنكار البادي في المثل وجعله واقعاً ملموساً. بعد أن يعلق السمك في الأشراك التي ينصبنها، حيث يقفن رتلاً وينتظرن اتصالات الزبائن، وعندما تصلهن طلبية يتمّ إخراج السمك من الماء وأخذه للشاري طازجا يلعبط. لم يعد هناك حاجة للبرّادات المكلفة، ولم يعد هناك همّ انقطاع الكهرباء، ولا لشخص يحرس السمك في الليل، ولم يعد خطر فساد السمك أو انهيار قيمته قائماً، ولم يعد احتمال  تسمّم الزبائن بالسمك موجوداً، ولم يعد هناك حاجة لصيد الزائد، بل يمكن لحجم سوق النساء هذه أن يزداد أكبر عبر التنسيق مع صيّادي السمك في المنطق المحيطة باستخدام هواتفهن الخاصّة، وكبديل عن اقنصاد السوق الرسميّ. ليس هذا الحل الالتفافيّ سيئاً بالنسبة إلى النساء أو بالنسبة إلى المجتمع بشكل عام.


بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق