الأربعاء، 13 مايو 2015

جنازة جحا



من يقرأ نوادر جحا يعرف فوراً أنّه شخصيّة تنتمي إلى الأسطورة أكثر ممّا تنتمي إلى الواقع، ولا يمكن الاعتراف به كحقيقة تاريخيّة إلاّ إذا آمن الفرد بوجود شخصيّات خارقة كسوبرمان والرجل العنكبوت والرجل الوطواط ومارد الفانوس السحريّ وسندباد البحريّ. شخصيّة جحا كما وردت في النوادر لا يتقبّلها عقل لفرط ما فيها من تناقضات تبلبل العقل. فهو رجل لكل العصور إذ تنسب إليه طرائف تعود أحداثها إلى بدايات الإسلام وأيام هارون الرشيد وعهد تيمور لنك وصولاً إلى العصر العثمانيّ، علماً أنّه لم يكنْ محسوباً من المعمّرين! كما أنّ شخصيته ليست ذات مزاج واحد ولا عقليّة واحدة، فهو مجمع النقائض وملتقى الأضداد. إنّه الغبيّ الذكيّ، الناسك الفاتك، خفيف الظلّ وثقيله، سريع البديهة طوراً وعديمها طوراً آخر.  
ولا يمكن لأيّ أحد أن يعرف جحا الحقيقيّ من جحا الخياليّ. كلّ طرفة يمكن أن تنسب إلى جحا ولا يمكن لأحد أن يرفضها. ذكره المَيْدانِيّ في كتابه "مجمع الأمثال" باعتباره من قبيلة فَزارةَ كما ورد ذكره في كتاب "الحيوان" للجاحظ. وهناك من يقول إنّ جحا من أصول تركيّة لا عربيّة، أي أن شخصيّة جحا متغيّره على صعيد الانتماء العرقيّ كما هي متغيّرة على صعيد الدور الذي تتقمّصه. إنّه أشبه ما يكون بمخلوقات خياليّة كأبي الفتح الإسكندريّ بطل مقامات "الهمذانيّ" أو كأبي زيد السَّروجيّ بطل مقامات "الحريريّ".
روى لي صديق نادرة عن جحا وهو في مأزق فريد من نوعه، فلقد ضجّ أهل المدينة التي يعيش فيها من غباواته وحماقاته ومقالبه، فقرّروا التخلّص منه بقتله قتلة غريبة الأطوار تلائم الأدوار التي لعبها على مسرح نوادره. نعرف أنّ الوأد كان عادة جاهليّة تمارس بحقّ البنات الصغار. ولم يكن أساس الوأد في الجاهلية كرهاً للمرأة بقدر ما كان خوفاً عليها وحبّاً لها! ومن الحبّ ما قتل، على قول المثل. كانوا يقتلونها خوفاً عليها من السبي في زمن كانت الحياة فيه تعتمد على السلب والنهب، والثأر والعار.
في أيّ حال، اتفق أهل المدينة على وأد جحا أي على دفنه حيّاً، ولكنّهم أرادوا في الوقت نفسه تمرير الوأد على أنّه دفن عاديّ، بل زيادة في إتقان اللعبة، قرّروا وضعه في تابوت، وحمله على الأكتاف لأخذ الأجر في حمل الميت، وراحوا يندبون حظّهم بوفاة جحا، وخسارة المدينة لرجلها الذي كان يملأها ضحكاً. كان صوت ندبهم عالياً مرتفعاً، ومرّوا في طريقهم إلى المقبرة بجوار مبنى الحاكم ليسمعوه نشيج أحزانهم، والمرور المتعمّد كان بمثابة توثيق رسميّ لوفاته. أرادوا أن يكون كلّ شيء مخطّطاً، مدروساً. طَرَقََ النواح والندْب سمع الحاكم، فطلّ من شرفة القصر مستفهماً، يريد أنْ يعرف أيّ شخص هذا الذي افتقدته المدينة وسبّب كلّ هذا الحزن. راح كلّ نوّاح يخرج الكلمات من فمه محشرجة متقطّعة، فالتمثيل ليس ابن المسرح والسينما والتلفزيون، إنّه موجود من قبل أن توجد كلّ الخدع التلفزيونيّة والسينمائيّة.
كانوا كلّهم يصرخون بصوت واحد: مات جحا يا مولانا، المدينة فجعت بمضحك الثكالى. تأثّر الحاكم لرحيل جحا تأثّراً كبيراً، فكثيراً ما قلبت نوادر جحا الحاكم على قفاه من الضحك. وراح يدعو له بالرحمة راجياً من الله أن يتغمّده بواسع رحمته.
كان جحا في التابوت يسمع النحيب ويسمع الحوار الدائر بين المشيّعين والحاكم. غمرته سعادة، ظنّ أن ضوء الخلاص بدأ بالبزوغ على يد الحاكم وقال: "إنها فرصتي لإيقاف مسرحيّة موتي".استطاع بعد صراع طويل أن يتخلّص من أغلال يديه وقدميه، وأن يحرّر فمه من الكمّامات الكاتمة للصوت ثمّ رفع غطاء النعش ووقف في تابوته قائلاً: يا مولاي السلطان، أنا لست ميتاً، وها أنا بلحمي وشحمي أخاطبك، أوسمعت بميت، من قبْلُ، يخاطب حيّاً؟
 ذهل المشيّعون وارتعبوا، لقد فضحهم جحا، كشف الغطاء عن مسرحيتهم السوداء، بلعوا ألسنتهم النادبة وارتقبوا سوء العاقبة. لن يرحمهم الحاكم، وقد يأخذهم بجريرة جريمتهم. ولكن الحاكم أمام استغراب جحا والمشيّعين قال مخاطباً الميت الحيّ: أليس من الحمق يا جحا أن أصدّقك وأنت فرد واحد وأكذّب الأكثريّة المحزونة. إنّك ميت، والناطق شبحك لا شخصك. لا يسعني إلاّ أن أترحّم عليك ومن ثمّ أشار إلى المشيّعين قائلاً: خذوه إلى مثواه الأخير، ولم ينس حاكم المدينة تذكير الحشود النائحة بضرورة قراءة الفاتحة على روح جحا الطاهرة.
انتهت الحكاية هنا من دون أن يخبرنا أحد بتفاصيل الدفن!
بلال عبد الهادي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق