جزر الكناري قارات مصغرة متناثرة في المحيط الأطلسي, جزر
عاشت من قديم الزمان حقبة فردوسية, على أيدي جغرافيين وفلاسفة وعشاق سفر. فالمحيط
الذي كان مغلفا بأسراره كان يعرف بـ "بحر الظلمات" فوراء عمودي هرقل أو
ما يعرف الآن باسم مضيق جبل طارق, كان يكمن عالم أسطوري. وجزر الكناري كانت جزءا
من هذه الأساطير تغلفها حكايات فردوسية فلا أحد يدري اذا ما كانت معروفة, ولكن
اليونانيين جعلوا من أرضها مثوى لارواح ابطالهم, وكان افلاطون يرى فيها بقايا تلك
القارة التي ابتلعها بحر الظلمات. ولعله على حق, فهذه الجزر يرى المرء في بعضها
أشتاتا من المناظر على صغرها وكأنها منمنمات قارية.
بقيت جزر الكناري ذات سحر خاص, وان فقدت أساطيرها أو
بعضها. كانت في القدم ذات سحر ذهني, وأضحت بعد اكتشافها ذات سحر مرئي فحين اكتشفت
في أواخر القرن الثالث عشر, وكانت مأهولة بشعب "غوانش". هذا الشعب اتخذ
من الجبال مكانا لإقامته, يحفر في الصخر أعشاشه كالطيور حفرة تتلوها حفرة حتى أن
بعض الجبال كالنخاريب من فرط النخر, ما زالت ترى الى الآن في بعض الجزر, انها آثار
لشعب ما عرف أحد بعد حل ألغازه. ولقي هذا الشعب ما لقيته شعوب العالم الجديد من
شبه إبادة, وما بقي منهم ذاب في الخليط الجديد.
أمتاز هذا الشعب بتحنيط الموتى, ولفّهم في جلد الحيوانات
ووضعهم في أنفاق أرضية بانتظار بعث جديد يدب في الجسد المقدد, إذ عثر على بقايا
أكل وآلات يحتاجها الميت حين يستيقظ من موته. فالآخرة في ما يبدو, كانت حاضرة في
أذهانهم, كما كانت الشمس التي عبدوها, ولعبت هذه الجزر دورا تاريخيا مهما إذ كانت
المحطة الأولى لكريستوف كولومبس في رحلته الى القارة الجديدة.
جزر الكناري هي سبع بالاضافة الى جزر صغيرة جدا مبعثرة
قبالة الشطآن, وهي جزء من اسبانيا, جزء منفصل يبعد عنها 1115 كلم في حين انها لا
تبعد غير 115 كلم عن المغرب العربي, والجزر مقسومة الى محافظتين: شرقية وتضم
"غران كناري" و "فوروتيفانتورا" و "لانسارةت"
وعاصمتها مدينة لاس بالماس وغريبة تضم غوميرا, لا بالما, اييرو. وتنيرفة وعاصمتها
سانتاكروس.
لكل جزيرة طعم خاص بفردها عن غيرها بل ان الجزيرة
الواحدة, أحيانا, تختلف ما بين شمال وجنوب, وكأن امرء وهو يعبر الجزر, انما يعبر
قارات. فالتناقض في طبيعة الجزر يزودها بمفاتن ساحرة. فبعض الجزر تضم الحياة
الصحراوية الى الحياة الاستوائية في ظل افريقي مطعم بالطبيعة الاندلسية, وعلى اختلاف
المناظر ثمة شيء واحد يمنحها القدرة على اسر الآتين إليها وهو الطقس, فالجزر على
مدار العام تتشبث بفصل واحد من كل فصول الدنيا هو الربيع بدفئه العذب الذي لا ينزل
عن 18 درجة ولا يتعدى 25 درجة. فالربيع الجميل هو فصولها الاربعة, وهذا ما يجعلها
مقصدا لأولئك الذين ترتجف أبدانهم في أوروبا, فيأتون بل يتدفقون على مدار السنة
الى شطآن الكناري, يحملون أحلاما امتص نسغها الصقيع لتعاود تغذية الروح.
لا فصل محددا للسياحة والتنزه. في أي وقت يرتطم نظرك في
المدن أو الجبال بسويدي, أو الماني أو ياباني, أو دانماركي أو بريطاني للتنعم
بلذائذ ربيعية في زمن يغيب فيه الربيع عن مطارح كثيرة في العالم, جزر الكناري
رأسمالها قدرة على استئصال برد الروح من جهة, ومناظر بهيجة, خلاسية, شديدة التنوع
من جهة اخرى. بعض الجزر تنعم ببركة السياحة أكثر من غيرها كجزيرة غران كاناري التي
أعطت اسمها لبقيت الجزر, وهي على صغر حجمها (1532كلم2) تحتضن مفارقات الطبيعة. فمن
خضرة مترفة تتبدى في حقول الموز, وهي تنحدر من المرتفعات. وكأنها نهر أخضر - لتصب
في البحر مانحة للعين مناظر غاية في الروعة تعرفها من اختلاط اللون الاخضر باللون
الأزرق الى محلات أخرى من الجزيرة, لاسيما عند ملامسة الصخر للبحر, وتبدو كأنها
نصب بنتها الامواج, بنية اللون, خرجت من أعماق الأرض في زمن بركاني. فالبراكين
تركت أثرها في كل مكان. وينبت من وسط الكناري جبل شاهق بالقرب منه فوهة بركان
انطفأ وترك امعاءه الحجرية السوداءتنهمر وتلون الأرض.
والسحر هنا هو الانتقال في زمن قصير من عالم الى عالم,
فمن عاصمة الجزيرة لاس بالماس يغير المرء في ساعة واحدة احاسيسه كلها, يختار ما
يشاء: حقول خضراء أو كثبان الصحارى دون لهيبها, ولاس بالماس فضلا عن متعها, حافظت
على إرثها الماضي, وارثها الاسباني معا فبعض احياء المدن تنقلك الى جو اندلسي, ففي
مدينة "لاس بالماس" وهي أكبر المدن في هذا الارخبيل, ترى عالما مكونا من
أمم الارض كلها وآثارا متناثر في ساحة سانت آنا, فمن الكاتدرائية ذات البناء
القوطي الى متحف يضم قطعا من قبل مجيء العالم الاوروبي, اشياء بسيطة كان يستعملها
شعب غرانش: خزفيات, رحى لطحن الذرة, ومومياءات وثمة ساحة أخرى هي سانتا كاتالينا
تتفرع منها محال لا حصر لها هي قلب هذه المدينة, هنود وأفارقة حملوا مأكلهم الى
هنا, فتختلط في الشوارع روائح البهار والتوابل بأنواعها. وفي متناول العين آثار
كريستوف كولومبوس في مقر حاكم الجزر في ذلك الوقت. فالجزر تذكر بهذا الرحالة
لاسيما عند شطآنها التي نزلها غير مرة.
والتجول في المرفأ يوقظ في النفس عوالم شرقية, فالبيوت
عند المرفأ بيضاء مغلفة بمشربيات تحفظ للداخل أسراره الى جانب شرفات خشبية أيضا
مخرمة ذات صنع بديع. ومن المرفأ يروح المرء الى جزيرة "فوروتيفانتورا"
عالم آخر, أول ما يصل المرء يؤخذ بحياة المرفأ. فمراكب الصيادين الملونة تنعش
البحر, وخصوصا حين عودة الصيادين بثمار بحرية تعرض في الأرض بأحجامها وألوانها
المتعددة, ومن المرفأ اذا ما دخل المرء قلب الجزيرة يجد نفسه في صحراء. رمل ذهبي
الأولن لا حد له, صحراء فيها طعم الصحارى ما خلا الحريق. فالبحر من جنباتها بمتص
لهب الشمس ويترك لك متعة تقطفها من تموج الكثبان. وهذه الجزيرة على شح الماء, وبخل
المطر, تسحر هواة البحر لشطآنها, وعشاق الصيد لخصب الممر الفاصل بينها وبين
افريقيا.
أما اروع الجزر ربما هي "لانساروت" التي كما
تقول الاسطورة قطعة من القمر أسقطها الله الى الأرض ليفرح بها قلب الانسان, ويطفيء
حشريته في آن معا. وهي جزيرة البراكين على الاطلاق. لهب الارض خرج من اعماقها
وانبسط تاركا آثاره الحجرية وغطاها ببساط أسود فثلاثمائة بركان تتناثر فوقها,
تركوا بقعا عميقة كالجدري ومع هذا, فإن سحرا رائعا يملأ العين, وهو نهوض الخضرة من
قلب الرماد بطريقة فنية عبقرية نزلت على المزارعين بما يشبه الوحي. فالمطر قليل,
والخضرة تعيش من قطرة الندى ترى الارض على فجوات البراكين تزداد فجوات اصطناعية
ضرورية لاحياء الارض. مساحات شاسعة سوداء تراها تبرقع السواد بتجاويف خضراء لها
شكل القمع, فالمزارع يحفر حفرا في عمق ثلاثين سنتيمترا حتى يصل الى قلب التراب
لغرز عروق الخضرة ثم يغمرها برماد البراكين, وله فعل سحري في التقاط الرطوبة
وامتصاص الندى ثم يسورها للحفرة بحجارة
بركانية سوداء وفي هذه الجزيرة البركانية, ثمة جبل هو "جبل النار" أو
مونتانياس دل فوويغو, طريق ضيقة متعرجة تصعد بك الى حقول الحمم, ترى أرضا صلصالية
كانت أخصب ما في الارخبيل, تحولت الى شقوق وانهار متجعدة تنحدر الى البحر, حمم
ملونة صفراء, وبنية, وفولاذية حتى قيل عنها انها ارض لم تكتمل, ومادة عجينية لم
تتشكل.
وثمة قرية ضائعة في الجبال تعيش من تربية القرمزيات التي
تنمو على ورق الصبار, وتباع هذه الحشرات لإيران لتلوين السجاد كما تباع الى اسواق
الغرب لصنع أحمر الشفاه. وثمة جزيرة إييرو التي كانت الى حد اكتشاف اميركا تعتبر
آخر بقعة يابسة في جنوب الارض, أرضها قاحلة, ولكنها في بعض المطارح تستعيد بالندى
والرطوبة لصيد الخضرة فترى فيها حقول الصنوبر التي تعتبر اكثر الحقول جمالا في
الجزر. حقول تتسلق المرتفعات. وما يلفت النظر أيضا هو أشجار التين التي تزرع في
الارض, فتكاد لا ترى جذعها انما مجرد اغصان وارفة تنبسط في الارض أحيانا على مدى
ثلاثين أو أربعين مترا. ومن مرتفعاتها الساقطة فورا الى البحر, يتأمل المرء جمالا
فاتنا.
إلا أن الجزيرة الخضراء هي "لابالما" التي
تعرف بالقلب الأخضر, لأنها في شكل قلب مغمور بالنخيل وشجر الموز وشتائل التبغ الذي
ينافس تبغ كوبا, وينهض من قلب الجزيرة جبل (2423م) شققته البراكين, يتبدى من مدينة
سانتا كروس, قمة هائلة نسبة لمساحة الجزيرة (762كلم) تبدأ ارتفاعها من شط البحر
اضافة الى قمم اخرى تشكل دائرة في وسطها فوهة بركان "لاكالديرا دي
تابوريانته" بحجمها الضخم فقطرها 9كلم, وعمقها 800 متر وبقربها نصب مقدس من
زمن رحل هو نصب ايدات كان يسقى بدماء الذبائح تمجيدا لاله غوانش, نصب يرتفع في
الجو, وكأنه منحوتة حفرها زمن يمارس, في الاوقات, ابداعا فنيا في عصبية تركها في
الصخر.
ذكريات
كولومبوس
وجزيرة كوميرا ما زالت تحمل ذكريات من فترة كولومبوس
ويقال ان بحارا على وشك مفارقة الدنيا أفضى الى كولومبوس بسر الطريق الى العالم
الجديد, ومن هذه الجزيرة, حمل كولومبوس على متن سفنه في رحلاته الى اميركا بأزواج
من الحيوانات, وحبوب من العالم القديم ليزرعها, وهذه الجزيرة الصغيرة (383كلم) ما
زالت تحتفظ بعادات وتقاليد من عالم قديم انطفأ, وتستعمل لغة بديعة هي لغة الصغير
تنقل اخبار القرى من قمة الى أخرى.
غير أن جزيرة "تينيريفة" ابقى, في نظر الذين
يأتون الى الأرخبيل, أكثر الجزر فتنة لتناقض ملامحها, فهي من جهة الشمال والغرب
غارقة في الخصب, تكتسي ثوبا أخضر, ومن جهة الجنوب صحراوية, ومسافات ضئيلة تربط بين
البحر والجبل, وتنبت قبالتها من أعماق الماء صخور شاهقة مخرقة ذات اشكال سوريالية,
ومدنها بيضاء مثل مدينة "بيورتو دي لاكروس" احدى المحطات السياحية
المهمة في الجزيرة, والابنية الحديثة حاولت ان تخرج عن المنظر العام فتراها غارقة
في الخضرة التي تملأ السطوح. وتتدلى من الشرفات في شكل بديع. الحي القديم في مرفأ
تينيريفة جميل بأزقته الضيقة, وواجهاته البيضاء ذات الشرفات الخشبية المخرمة مما
جعل الكثيرين يعتبرونها مدينة اسبانية صغيرة مقلوعة من شروشها ومزروعة على ضفاف
البحر.
ومن المناطق الرائعة أيضا "لاس كانباداس"
تتسلقها السيارات والباصات لتأمل صخور حجرية, وكأنها جذوع أشجار أسطورية عارية
تماما, ولكنها فاتنة بعلوها الضارب في الجو وأناس كثيرون يشوقهم امتطاء القمم
فيتسلقون قمة الجبل الرابض بعريه والمكلل ببقع ثلجية في معطم الأحيان, يصلها المرء
بواسطة تلفريك, وكثيرون يبيتون ليلتهم في القمة لتأمل مشهد فاتن, وكأنه بدئ
التكوين. فعند الفجر, حين تخرج الشمس من نعاسها, ترى الجزر التي كانت في بطن اليل
وكأنها في بطن العدم, تنهض واحدة اثر أخرى أمام عينيك, وكأنها غواصات عملاقة تنبت
من قلب البحر. كثيرون يذهبون الى القمة لتخيل, لفترة وجيزة, وممارسة الأحلام
الآدمية الغائرة في النفس التائقة, وهماً, الى حضور ولادة العالم.
نشر هذا المقال في مجلة الفرسان التي كانت تصدر في باريس في العدد 715 الاثنين تشرين الأول/اكتوبر 1991
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق