الأحد، 17 مايو 2015

كلبة فولتير وسيميائية امبرتو ايكو


إمبرتو إيكو "Emberto Eco" كاتب إيطالي متخصص في شؤون "العلامة" أو "السيمياء" "la semiotique "، وله في ذلك مؤلفات كثيرة، و"علم العلامة" من مستحدثات علم اللغة الحديث، وهو عبارة عن أدوات لقراءة معنى الأشياء وليس معنى الكلام فقط. فالدنيا، في نظر هذا العلم الطريف، صحيفة، وأشياء الدنيا كلمات وجمل ونصوص. السيمياء فيما يبدو تعلم المرء على أن يفتح عينيه لرؤية المعنى المبثوث في تضاعيف الأشياء. وعلى قولة الجاحظ إنّ "المعاني مرمية في الطريق". ولا يخلو تعبير أو غرض من معنى مهما تَفُهَ شأنه أو نَبُهَ. وكان العالم اللغويّ الروسيّ الموسوعيّ جاكوب ياكوبسون يقول إنّ عبارة " بلا معنى" نفسها تكتظّ بالمعنى.

ويبدو أنّ إيكو كان يستطيع رغم تناوله لأمورٍ معقّدة وصعبة أن يعبّر عنها ببساطة جذّابة، ولا يخلو أسلوبه الأكاديميّ والعلميّ الصارم من روح الفكاهة بحيث أنّ بسمة تنفر- وأنت تقرأ كتبه- من بين شفتيك.

في كتابه " العلامة" "le signe" أراد توضيح معنى "علم العلامة أو السيمياء". وكيف أنّ أي إنسان يشغّل عقله ويشتغل على نفسه ويدرب عينيه على النظر قد يعرف ما لا يعرف معرفة دقيقة! وقد يرى في الصفحات البيضاء كلاماً كثيراً مختلف الألوان وقد يكون شاهداً صادقاً على أحداث ووقائع لم يشهدها ولم يرها من غير أن يكون شاهد زور. يستعين إيكو كأيّ كاتب بغيره لتوضيح أفكاره، فأفواه الناس حِبْرٌ لأقلام الكتاب. وفي موضوع العلامة يستعين إيكو بالكاتب الفرنسيّ فولتير الذي كان يستعمل أسلوباً بسيطاً وساذجاً لسرد ما يستعيره، بدوره، من حكايات الشرق القديم. وقد نال فولتير من خلال هذه البساطة المشغول عليها وهذه السذاجة التي يتوارى خلفها دهاء لا يغيب عن عين القارىء مكانة مرموقة في الأدب الفرنسيّ. استعان إيكو بحكاية وردت في كتاب "Zadig ou la Destinee"  وهو مترجم إلى العربية بقلم الشاعر الراحل يوسف غُصّوب.

تقول الحكاية إنّ "صادق" بطل حكايات فولتير كان يتنزه في أحد البساتين، فرأى خصيّاً من خصيان ملكة الإقليم مسرعاً ووراءه مجموعة من المرافقين وعلى وجوه الجميع أمارات من القلق، ويبدو من عيونهم كأنهم يبحثون عن شيء فقدوه. تقدم كبير الخصيان من صادق وسأله:أما رأيت كلبا مرّ من هنا؟ أجاب صادق: ليس كلباً بل كلبة، فقال الخصيّ: صدقت، ويبدو أنّ بال خصيّ الملكة قد اطمأن لدى سماعه كلام صادق، وشعر كما لو أنّه يمسك شعرة من ذيل الكلبة الضائعة، وأردف صادق قائلاً: وهي كلبة صغيرة الحجم وقد وضعت جراءها منذ وقت قريب وأصيبت يدها اليسرى فهي تعرج، ولها أذنان طويلتان. فرح كبير الخصيان بكل هذه التفاصيل التي تؤكد أنّ حصوله على الكلبة الملكيّة بات قاب قوسين أو أدنى. قال كبير الخصيان لصادق: إذن رأيتها. ولكن إجابة صادق الأخيرة كانت صادمة لأذني كبير الخصيان إذ قال: ما رأيتها ولا علمت قطّ أن للملكة كلبة!

ومن "عجيب الاتفاقات" بحسب عبارة فولتير أنّ أكرم فرس للملك أفلت بدوره من يد سائسه وشرد، فذهب السائس وبعض أعوانه للبحث عن الفرس حتى وصلوا إلى صادق وسألوه إن كان الفرس مرّ من هنا، فقال صادق إنّه فرس كريم علوّه عن الأرض خمس أقدام وحوافره جدّ صغيرة وله ذيل طوله ثلاث أقدام ونصف قدم، وراح يعطي تفاصيل دقيقة. وحين سألوه: أيّ طريق سلك، قال صادق: ما رأيته ولا سمعت به قطّ. وما إن تفوّه صادق بآخر كلمة من كلماته حتى قيدوه وقادوه إلى المحاكمة ثمّ إلى السجن بتهمة السرقة!

تمّ العثور بعد وقت قصير على فرس الملك وكلبة الملكة. فاغتمّ القضاة الذين أدانوا صادقا فأفرجوا عنه لبراءته ولكن بعد تغريمه غرامة مالية لأنّه " لم ير ما رأى".

قال صادق للقضاة انه فعلا لم ير الفرس ولا الكلبة، ولكن رأى آثار ذلك على الأرض، ثمّ أردف قد عرفت أنها كلبة مرضع لأنّي لاحظت آثار أثلام خفيفة على الأرض وسط آثار القوائم فاستنتجت بأنها أطْباؤها أي أثداؤها، كما رأيت آثارا بمحاذاة القائمتين الأماميتين فعرفت أن للكلبة أذنين على غاية من الطول، ورأيت أن إحدى قوائم الكلبة تترك أثراً أخفّ من أثر القوائم الأخرى فأدركت أن الكلبة تعرج بعض العرج. أما الفرس فقد لاحظت، يقول صادق، آثار حوافر على أبعاد متساوية فأدركت أنه يمشي مشية الفرس الأصيل، ورأيت تحت الأشجار المعرشة على ارتفاع خمس أقدام أوراقاً سقطت حديثا فعلمت أنّ علوه قد مسّها وبالتالي فإنّ علوه خمس أقدام.

خرج صادق من السجن وقرر أنْ لا يخبر أحداً بما يرى، لأنّ للمعرفة ضريبة يدفعها المرء، في الأحيان، خلف القضبان.ولكن إمبرتو إيكو لديه ولع بالأخبار إذ بعد أن عجن "العلامة" وخبزها في أكثر من كتاب اتجه إلى كتابة الروايات التي تتلقفها عيون القراء بنهم شديد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق