عبارة العنوان
مدلّلة, مرفّهة, محظوظة, نجمها محبوب, نربِت على كتفها, نحلف بحياتها, ندعو لها
بطول العمر, ونأخذ بخاطرها ونستلّها كالسيف المصقول في لحظات من
حياتنا نقارع بها من يتنكّر لجميل أسديناه، ذات يوم، إلى
لحْم كتفيه. ودليل التدليل هو أن هذه العبارة حظيت باهتمامات متعدّدة, فالخطّاطون
يبرعون في كتابتها بكلّ الخطوط العربيّة من نسخيّ وكوفيّ وفارسيّ وديوانيّ بل إنّ
الطباعة ساهمت أيضاً في تدليلها حتى رسوّها بسلام في
مرفأ "الزمن الرقميّ". وبعض الناس يرغبون في اقتنائها وتعليقها
كالذخائر أو الأحجبة أو الخرْزة الزرقاء! في المتاجر والمكاتب والبيوت ويخافون
عليها من الغبرة والطير الطائر فيحمونها بساتر زجاجيّ شفّاف, كما أنّ العابر في
الطرقات يقرأها على زجاج السيّارات ( ودراسة العبارات
المكتوبة على زجاج السيارات من أطرف الدراسات التي تفصح عن العلاقات والصراعات
الاجتماعيّة) وقد تحفر على حاملة مفاتيح, فالعبارة مطّاطة, تكبر وتصغر بحسب
فسحة المكان التي تستضيفها. تمرّ العين عليها مرّ الكرام, لا تستوقفها كثيراً, وكأنها
بديهة من بدائه الحِكَم التي لا تزال في كامل زهوها وألقها. وفي مناسبات كثيرة تتلفّظ بها الشّفاه المجروحة فتنزل من الفم كالبلسم
السحريّ الشافي المضادّ لطعنات اللؤم.
ولكن اكتشفت بمحض
المصادفة انها عبارة، بدورها، عاقّة، مزيّفة, ممسوخة, محذوف، أو بالأحرى، منهوش
طرف منها نبيل المقاصد, عبارة ليست أصليّة, وإنما محرّفة عن أصل بنّاء, يعرف الأصول,
ويعرف فضائل شعرة معاوية التي تمتاز بالحكمة والحنكة.
طبعاً حين يرى المرء
هذه العبارة مكتوبة ومزوّقة لا يخطر له على بال انها عبارة مزوّرة, وإنْ كان عليه أحياناً
أنْ يأخذ حذره من الكلام المنمّق والمزوّق ( المثير للريبة) لأنّ عبارات كثيرة
يندسّ خبثها المضمر في تضاعيف التزويق ( والتزويق, عند التحقيق, تزوير), فهو باب
مذهّب من أبواب الخداع والتعمية والتمويه. والكلمات توجّه إلى الحواسّ, لا لتوقظها
دائماً, وإنّما لتخدّرها أحياناً, وتبطل مفعولها "الآدميّ". وليس أسهل
من التلاعب بسذاجة الحواسّ التي تصاب أحياناً بعمى الألوان وتمييز المقادير
والمعايير, وهذا ما كان قد أدركه وأشار إليه, في أيّ حال, حجّة الإسلام الغزاليّ
في كتابه اللطيف " المنقذ من الضّلال".
إنّ عبارة
العنوان، كما يرى متأملّها، هي دعوة للقطع لا للوصل, والوصل خير من القطع, إلاّ انّ
الوصل, لا ريب, يحتاج إلى حنكة وبرودة أعصاب وصبر مضْنٍ على المكروه, أيْ أنّ
الوصل كالوصول النبيل صعبُ المرتقى إلاّ انه ممتع لا يعرفه سوى من ذاب وصالاً.
والوصال, في أيّ حال, من الوصل لا من القطع. بينما القطع سهل, هيّن ليّن, إلا انّه
مدمّر. من هنا التشديد في الحضارة العربية على وجوب "صلة" الأرحام, أي
على وصلها لا قطعها, والقطع مؤلم بغيض, أحياناً يكون أشدّ افتراساً وفتكاً من
الموت وهذا المعنى نلمحه في القول المأثور" قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق".
المفاجأة السارّة
هي إنني قرأت عبارة العنوان كاملة في أحد المحلاّت, وما كنت أظنّ أنّ لها تتمّة- والأمر
الدالّ أنّ العبارة الكاملة التي علّقها صاحب المحلّ على الحائط كانت بخطّ يد لم
تمهر، على ما يبدو، في فنّ الخطّ ممّا يعني أنّ العبارة المكتملة لم تمتلك بعد
كامل حضورها وكامل حقوقها الخطّية- كانت القراءة
الكاملة بمثابة كشْط الغبار اللزج عن معناها الأوّل وعن سيرة حياتها الفعلية لا
المزيّفة. وللعبارات, كما للناس, سير شخصيّة غنيّة ومغامرات مع مستعمليها طريفة
الدّلالات.
اكتشفت أنّ سيرة العبارة الراهنة سيرة داعرة,
ماكرة, شوهاء, مبتورة الأطراف. إنّ قصّ جزء من العبارة هو أشبه بقصف عمرها أو نسف
معناها, أو حفر مجرى جديد يرفدها بدلالات عارضة, لقيطة، ليست من صلبها، وليست الدلالة
الوافدة بالضرورة أنقى من الأولى. كان قصّ جناح من أجنحة العبارة سبب إسفافها,
ومنعها من التحليق والطيران في فضاء الخير والمعروف. اللافت في الأمر أنّ العبارة الأصل كانت هي
الضحيّة الأولى التي وقعت تحت مخالب العبارة المنقوصة التي تدعو إلى القطع, لأنها
قطعت عن تتمّتها البارعة في ممارسة الدبلوماسية وهي " بدوام الإحسان إليه".
التتمّة تنمّ عن دهاء نبيل يغيّر مسار العبارة والعلاقات بين الناس. ومن الضرورة الأخلاقية,
فيما أظنّ, فكّ أسر التتمّة بعد سنوات الاعتقال الطوال. ولا ريب في أن العبارة حين
تعود إلى أصلها, تعود إلى وصلها, وتستعيد عافيتها الدلالية الأولى. ودوام الإحسان
يستأصل نزعات الشرّ عند الآخر أو, في الأقلّ, يبقيها غارقة في سابع نومة. والتأثر
بقراءة "إتّقِ شرّ من أحسنت إليه بدوام الإحسان إليه" خير
بالتأكيد من الوقوع الصارخ في شباك عبارة "إتّقِ شرّ من أحسنت إليه"
المبتورة الأطراف.
إنّ العبارة
المنقوصة والمشّوهة لديها رغبة خبيثة مضمرة تشبه ما ورد في طرفة كنت قد سمعتها عن شخصين حُكم عليهما بالإعدام,
واحد طيّب القلب - والطيبة ليست شرطاً للنجاة من حبل المشنقة!- وواحد لئيم راسخ
القدم في اللؤم. سئل الطيّب قبيل تنفيذ حكم الإعدام: ما هي آخر رغبة تحبّ أن نحقّقها
لك؟ قال: أريد أن أبلّ نظرتي الأخيرة برؤية أمّي، وهي رغبة مشروعة ومحبوبة وإنْ كانت جارحة للأمّ،
وحين سئل اللئيم عن رغبته الأخيرة قبيل مغادرته الدنيا الفانية أجاب، وهو ينظر من
طرف عينه اللئيمة إلى المحكوم الأوّل نظرة تشفٍّ أرعن، إجابة صدمت أذن السائل وصعقت
مسْمعَي المحكوم الأوّل: لا تُحْضروا له أمّه! كانت رغبته هي انتهاز الفرصة الأخيرة
المتاحة امامه لمواصلة لؤمه حتّى
الرمق الأخير .
والطريف في أمر هذه الطرفة هو أنّها لا تفصح
لنا عن موقف الجلاّد الحائر من التعارض الظاهر بين الرغبتين!
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق