عن جريدة الشرق الأوسط
في عشرينات القرن الماضي بدأت، في مرحلة واحدة تقريبًا، حركة أدبية قوامها الاتجاه إلى «اللغة العفويّة». ليس العامية، ولا «اللغا اللبنانيي» وإنما الالتزام بجميع القواعد والأصول، مع الاستغناء عن التعابير التي اختفت مع الزمن، وأسلوب التكرار الذي لا لزوم له.
بدأت «الحركة» أولاً في نيويورك، فاستنكرتها لندن المحافظة، ثم ما لبثت أن انضمت إليها، وراحت باريس تخفف من التطريزات القديمة، وبدأت «الرابطة القلمية» في نيويورك بكتابة لغة حديثة، امتدت عدواها إلى مصر وبيروت. اختفى السجع القديم، وسيطرت لغة حديثة في إنتاج مصر، وانضم أمير الشعراء إلى هفهفة الثوب القديم من دون أن يفرط فيه أو بجمالياته، وتبعه أحمد رامي، فكثّف الفكرة وخفف الأوزان. وعندما صار الشعر يُغنى وتنشده الناس في البيوت والحفلات والمسارح، أخذ الشعراء الكلاسيكيون يراعون رغبات الجماهير وأحكام النغم والإيقاع.
بدأ الاعتداء على اللغة في السنوات الأخيرة عندما أخطأ المعتدون في الفصل بين السهولة والعامية. وفجأة، عمّت الموجة كل مكان. ولم يعد إعلان يكتب باللغة العفوية وإنما بعامية المكان. وهذه الأمة التي تشترك بلغة واحدة، تتفارق بمحكيات كثيرة متباعدة دخلت عليها آثار لغات أجنبية متعددة: الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والتركية والفارسية. وعندما عملت في الكويت أول مرة، لم أعرف معنى «الجام» و«درويل» و«بوتل». وبعدها اكتشفت أن المعلقة في العراق «خاشوقة» وأن «هسع» يعني الآن، وفي لبنان تصبح «هسعاتنية». وحاولت مرة، بكل جدّية، أن أتابع حلقة من مسلسلات رمضان المغربية: كانت البطلة فائقة الجمال، وأدركت أن الحكاية مؤثرة جدًا، لأنها لم تتوقف عن البكاء، وأمها لم تتوقف عن اللطم، والبطل لم يكف لحظة عن العبوس وتأنيب الجميع. لكنني وجدت صعوبة في الفهم، إلا عندما تدخلت المذيعة قائلة: «إلى اللقاء في الحلقة التالية غدًا». وما أطول الشوق إلى غدٍ.
تتحمل تلفزيونات لبنان مسؤولية كبرى في تقديم العامية على الفصحى. صارت حتى الريبورتاجات الإخبارية «باللغا اللبنانيي»، ولم يصمد سوى النشرة نفسها. وقلدها في ذلك عرب آخرون. ثم دخلت العامية على الصحافة المكتوبة وعلى الرواية. وصار على قارئها لا أن يدرس العربية، بل علم اللهجات الغريبة. كل ذلك لأننا لم نفرق بين السهل الجميل والعامي الهجين. وهذا لم يحدث في أميركا أو بريطانيا أو إيطاليا. تداخلت بعض الكلمات لكن «التايمز» لا يمكن أن تكتب عنوانها يومًا بلهجة «الكوكني». ولا «الموند» بلهجة أهالي مرسيليا. العاميات لا رونق لها، خارج مكانها.
بدأت «الحركة» أولاً في نيويورك، فاستنكرتها لندن المحافظة، ثم ما لبثت أن انضمت إليها، وراحت باريس تخفف من التطريزات القديمة، وبدأت «الرابطة القلمية» في نيويورك بكتابة لغة حديثة، امتدت عدواها إلى مصر وبيروت. اختفى السجع القديم، وسيطرت لغة حديثة في إنتاج مصر، وانضم أمير الشعراء إلى هفهفة الثوب القديم من دون أن يفرط فيه أو بجمالياته، وتبعه أحمد رامي، فكثّف الفكرة وخفف الأوزان. وعندما صار الشعر يُغنى وتنشده الناس في البيوت والحفلات والمسارح، أخذ الشعراء الكلاسيكيون يراعون رغبات الجماهير وأحكام النغم والإيقاع.
بدأ الاعتداء على اللغة في السنوات الأخيرة عندما أخطأ المعتدون في الفصل بين السهولة والعامية. وفجأة، عمّت الموجة كل مكان. ولم يعد إعلان يكتب باللغة العفوية وإنما بعامية المكان. وهذه الأمة التي تشترك بلغة واحدة، تتفارق بمحكيات كثيرة متباعدة دخلت عليها آثار لغات أجنبية متعددة: الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والتركية والفارسية. وعندما عملت في الكويت أول مرة، لم أعرف معنى «الجام» و«درويل» و«بوتل». وبعدها اكتشفت أن المعلقة في العراق «خاشوقة» وأن «هسع» يعني الآن، وفي لبنان تصبح «هسعاتنية». وحاولت مرة، بكل جدّية، أن أتابع حلقة من مسلسلات رمضان المغربية: كانت البطلة فائقة الجمال، وأدركت أن الحكاية مؤثرة جدًا، لأنها لم تتوقف عن البكاء، وأمها لم تتوقف عن اللطم، والبطل لم يكف لحظة عن العبوس وتأنيب الجميع. لكنني وجدت صعوبة في الفهم، إلا عندما تدخلت المذيعة قائلة: «إلى اللقاء في الحلقة التالية غدًا». وما أطول الشوق إلى غدٍ.
تتحمل تلفزيونات لبنان مسؤولية كبرى في تقديم العامية على الفصحى. صارت حتى الريبورتاجات الإخبارية «باللغا اللبنانيي»، ولم يصمد سوى النشرة نفسها. وقلدها في ذلك عرب آخرون. ثم دخلت العامية على الصحافة المكتوبة وعلى الرواية. وصار على قارئها لا أن يدرس العربية، بل علم اللهجات الغريبة. كل ذلك لأننا لم نفرق بين السهل الجميل والعامي الهجين. وهذا لم يحدث في أميركا أو بريطانيا أو إيطاليا. تداخلت بعض الكلمات لكن «التايمز» لا يمكن أن تكتب عنوانها يومًا بلهجة «الكوكني». ولا «الموند» بلهجة أهالي مرسيليا. العاميات لا رونق لها، خارج مكانها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق