الأحد، 24 مايو 2015

مصير ليرة لبنانية


لفتت نظري عبارة صينية تشير إلى قيمة ما لا قيمة له وفحواها: "إِنَّ ثَمَّةَ أُناساً يعرفونَ منفعةَ النافعِ ولكنْ لا يعرفونَ منفعةَ عديمِ النَّفْعِ". ربَّما كان هذا القولُ غريباً غرابة الفكر الصينيّ نفسِه، ولكنْ حين نسبر دلالاتِه نكتشف مقدارَ واقعيّته. ولا أعرف لماذا تذكّرت هذا القول حين روى لي أحد الأصدقاء هذه الحكاية عن الليرة اللبنانيّة- طيَّب الله ثراها وذكراها- يوم أن انهارت وتحولّت إلى ورقة تستحقّ الشفقة.

تقول الحكاية إنّ لبنانيّاً عايش انهيار الليرة، ورآها كيف تُحْمل في أكياس الخيش، وكيف صارتْ صحّتها وَرَماً. لم يتقبّل الوضع، ولم يقتنع بأنّ ليراته صارتْ كمّاً أجوفَ. تساءل: كيف أنقذ أموالي من الانهيار؟ كان يجهل فنون المضاربات وضروب النَّصْب والاحتيال ولكنّه كان يعرف أنّ الليرة لا تختلف عن الكلمة، من حيثُ إنّ قيمتها ليست ثابتة. لا أحدَ فيما أتصوّر يمكنه ادّعاء القدرة على حبس معنى كلمة في حذاء فتاة صينيّة! وكان هذا اللبنانيّ يعرف أيضاً أنّ ما يفصح عن معنى القول هو في بعض الأحيان مكان القول. إنّ كلمة "صَرْف"، وأنت في بَنْكٍ، لا تحمل المعنى نفسَه الذي تحمله أمام حنفيّة معطّلة، ولا تحمل المعنى نفسَه أيضاً إذا كنت في المدرسة وتستعملها في تعليم حصّة "الصَّرْف والنحو"، أو وأنت تستعملها للكلام عن "صَرْفٍ" تعسّفيّ للعمّال. يمكن القول إنّ ما ينطبق على كلمة "صَرْف" ينطبق على أيّ كلمة أخرى. ليس الصَّرْفُ وحده، في أيّ حال، هو ما يجمع بين "الكلمة" و"الليرة"! يمكن توسعةُ حقل النظر وتأمّلْ كلمة "النقد" مثلاً في عبارة "صندوق النقد الدوليّ" و"تيّارات النقد الأدبيّ ". من له إلمام بالنظريّات اللغويّة الحاليّة يعرف ربّما مقولة الفيلسوف اللغويّ لودْفيغْ فِتْغِنِشْتايْنْ (Ludwig Wittgenstein) الذي يقول فيها:"ليس للكلمة معنى وإنّما لها استخدامات".

ما علاقة ما أقول بحال اللبنانيّ الذي انهارت ثروته في لحظة طيشٍ لبنانيٍّ؟ يبدو أنّه كان يمتاز بقدرة خارقة على تقليب النظر في الليرات التي معه. يقال إنّ الكوارث تنشِّط عمل العقل، وهذا ما حصل مع ذلك اللبنانيّ إذْ قال سأتعامل مع أموالي المنهارة كما أتعامل مع الكلام. وما هي إلاّ لحظات حتى انفرجت أسارير أمواله. قال:" الليرة المنهارة، ليست ليرة. لا بدّ من تغيير نظرتي إليها لإنقاذ مصيرها".وراح يخاطبها قائلا: أنت هنا ليرة. خارج البلاد قد لا يعترف بك أحد، ولكنْ أعرف أنّ الناس يتشوقّون لرؤيتك ليس لأنّك ليرة عديمة القيمة، وإنّما لأنّك "شيءٌ آخرُ". كيف تكون الليرة " شيئاً آخرَ "، وكلّ من يتأمّلها يعرف أنّها ليرة أكل الدولار عنفوانها؟ تساءل: كيف انتقم من الدولار؟ بالدولار سوف آخذ بثأر أموالي المستباحة. هذا ما قرّره في لحظة انهيار الليرة المدوّي. ليس من السهل أن يكون الانهيار هو رأسمالك!

لعلّ هذا الخاطر لم يعبر تفكيره إلاّ لأنّه كان قد أفنى شبابه في تجميع جنى العمر. راح يخطّط على مهله حين كان الناس لا شغلة ولا عملة عندها إلا انهيار الليرة. الناس يهرولون لاستبدال أموالهم بالعملة الصعبة، ولكنّ ذلك اللبنانيّ أدار ظهره لكلام البورصة وألاعيبها وقال: الليرة المنهارة هي العملة الأصعب. سار عكس التيّار، اعتبره الناس مجنوناً يهذي بعد الانهيار. ولكنّه كان قد شعر بتفاؤل عارم بعد أن يئس من عودة الليرة إلى سابق مجدها.

اتّجه بتفكيره إلى بلاد الاغتراب، عرف أنْ يشعلَ الذكرياتِ في أجسادٍ جفَّ في عروقها الحنينُ. وضع أمواله في حقيبة، وهاجر إلى البرازيل، إلى أعماق الذاكرة المهاجرة.وأيّ ذاكرة لا تضعف أمام حنينها وتذكاراتها؟ وهل بنى الأديب الفرنسيّ مارسيل بروست مجده على غير الذاكرة؟ هكذا قال.

عددُ البرازيليّين من أصلٍ لبنانيٍّ يفوق عددَ السكّان المقيمين في لبنانَ. قال:أبناء جلدتي هم نجدتي، هم من سوف يقومون بعمليّة إنقاذ ليراتي من الانهيار. ذهب إلى هناك، وراح يتاجر بالليرة التي سقطت من أعين اللبنانيّين ولكنّها لم تسقط من عين ذاك الذي لا تربطه بلبنانَ إلا ذكرى غامضة تشبه بقايا كلمة مطموسة ورثها كالذخيرة من أبيه الذي بدوره ورثها من أبيه.

وراح يبيع في البرازيل الليرة بما يعادل الدولار. الليرة، في نظر البرازيليّ من أصلٍ لبنانيّ، ليست ليرة، وهي أكثر من دولار لأنّها عطر الأرز وثلجه، وشيءٌ من رفات الأجداد، ولأنّها بمثابة ورقة صفراء سقطتْ من شجرة العائلة فأيقظتْ ذكريات وأنقذتْ ليرات منهارةً من الانهيار!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق