الثلاثاء، 26 مايو 2015

سلطان الوهم


للوهم في حياة الناس سلطان لا ينكره إلاّ من يعيش في وهم كثيف الطبقات. وللوهم حسنات، في بعض الأحيان، لا تختلف عن حسنات اليد التي تنتشل الغريق. وعليه فمن العبث النظر إلى الوهم دائماً على أساس أنّه مجرّد أضغاث أحلام، أو تخيّلات ذهن مهيض.

هذا ما يستشّفه القارىء من حكاية رواها أحد القادة العسكريين القدامى من الشرق الأقصى عن معركة خاضها ضدّ عدوّ يفوقه عدّة وعدداً.

ظاهر الأمر ومنطقه يوحيان أنّ القائد مجنون ومتهوّر وأخرق الرغبات يدفع بجنده دفعاً إلى موت يشبه الإبادة، وهذا ما ظنّه أيضاً جنوده. فهم يعرفون أنهم قلّة لا حول لهم ولا قوّة، ويرَوْن أنّهم غير مجهّزين بما يكفي لضمان نجاح المعركة. حاولوا جاهدين ثني رأيه وعزمه لأنّ سواد النهاية واضح في نظرهم وضوح الشمس. لا شيء، من حيث الظاهر، يشير إلى إمكانية تحقيق الانتصار.

إلاّ أنّ للقائد رأياً آخر، على نقيض رأي الجند. فهو كان مؤمناً أنّ النصر في متناول اليد، وقطوفه دانية. فالكثرة لا تعني الغلبة في كلّ حين. كانت رؤيته غير رؤيتهم. هم يفسّرون النتائج المحتملة على ضوء المرئيّ وحده (والمرئيّ مُراءٍ) أمّا القائد فكان مقتنعاً أنّ المرء، أحياناً، يقع ضحية المرئيّ وفريسة الظاهر فيعمى عن رؤية نقاط ضعف القويّ المتوارية عن الأنظار.

حاول إقناعهم في الأخير من منطلقات هم يؤمنون بها. فقال لهم، لنترك للأقدار اتخاذ القرار بخوض المعركة أو سحب الفكرة. وفي العربية لا تخلو تسمية من إضاءة، فالقدر، لغويّاً على الأقلّ، موصول النسب والمعنى بالقدرة. أراد القائد أن تتماهى رغبته مع رغبات الأقدار، وأن يتعاونا معاً على صياغة الجواب فاقترح على جنده الإنصات لقرار الأقدار، وقال: سوف أدخل إلى المعبد وأستشير الأقدار، فهي لا تكذب، ولا تجامل، وكلامها لا يختلف عن كلام المرآة الساحرة، الصادقة. وافق الجيش ظنّاً منه أنّ الأقدار لن تبارك أو تشارك القائد مغامرته الخاسرة.

وبالفعل، خلع زيّه العسكري، وارتدى لباس التقوى، ودخل خاشعاً إلى المعبد، وبعد فترة، خرج مهموماً، مكروباً، وعلائم الحيرة بادية على محياه. الحيرة، هنا، جزء من تكتيك القائد.

قرأ الجيش علامات الحيرة على أنّ قرار الأقدار لا يختلف عن وجهة نظرهم، وهو أنّ المعركة خاسرة. وحين وصل أخبرهم أنّ الأقدار غسلت يدها من المسألة وأحالتها إلى نوع من اللعب إلاّ أنّ لعبة الأقدار لا تخلو من جدّ وإن تقنّعت بقناع الهزل. خاطب جيشه قائلاً: طلبت الأقدار منّي أن أرمي قطعة نقد معدنيّة في الأرض ثمّ استخرج الجواب من الوجه الظاهر منها. “الطرّة"- قالت الأقدار- تعني الانتصار أمّا "النقشة" فهي الانكسار. توقّفت الأنفاس، وحملقت العيون، وانتظرت الجواب العالق بين أصابع القائد ورنّة قطعة النقد.

سحب القائد القطعة النقدية من جيبه ورماها في الجوّ. احترقت أعصاب الناظرين في القطعة المحوّمة والمدوّمة كالبهلوان في الجوّ، ومرّت لحظات من القلق تفوق اللحظات وحين سقطت على الأرض، هجمت العيون لرؤية الجواب، وارتاحت عينا القائد بعد أن رأى وجوه الجيش قد استعادت حيويّتها، لأنّ "الطرّة" قالت كلمتها الفصل. وخاضوا المعركة بقوّة الأقدار وقوّتهم التي انبعثت من خورها وتردّدها وتحقّقت نبوءة الطرّة. قال له جيشه بعد انبهاره بالنصر: لا أحد يقدر على الوقوف في وجه الأقدار.

وقف القائد شاكراً للأقدار موقفها، وللجيش بسالته، ولكنّه أردف قائلاً:لا بدّ من الاعتراف، وأخرج من جيب سترته قطعة النقد، ومرّرها على الجيش الذي قرأ قرار القائد على قطعة النقد بعيون يلتهمها الذهول لأنّها رأت أنّ "الطرّة" كانت محفورة على وجْهَي القطعة، أمّا "النقشة" فلم يكن لوجودها أثر.


بلال عبد الهادي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق