الاثنين، 25 مايو 2015

حكاية سجّادة سموّ الأمير


مصائر الناس دولابٌ لا يكفّ عن الدورانِ وهو صنْو الحياة التي لا تؤمن بالخطّ المستقيم. مصائر الناس تشبه مجرى نهر متعرّج أو جسد حيَّةٍ تلوّيها شرطُ تقدّمها. بقاء الحال من المحال، هذا ما أدركه العربيّ القديم من خصال الدهر. اكتسب العربيّ معرفته بمزاج الدهر من رمال الصحراء التي كانت أوّل كتاب تتصفّح عيناه حروفه الرمليّة. عرف تصاريف الدهر لأنّه قرأ بعينيه الصَّحْراء وهي تخطّ على كثبانها تحوّلاتها الدائمة إذ لا يستقرّ كثيب الرمل على شكل رتيب أو يرضخ لسطوة الأماكن الثابتة.
وردت هذه الدلالات على ذهني إثر سماعي حكاية رواها لي شيخ عجن الدنيا وخبزها. خميرة الحكاية إنّ من لا يعرفُ يمكن أن يعرفَ أكثر ممّن يُفترض به أنْ يعرف. تحكي الحكاية قصّة حبّ، وقصص الحبّ لا تلعب فقط بالقلوب والأشْخاص وإنّما تلعب أيضاً بالتاريخ لعب كليوباترا بتاريخ مصر وتاريخ الإمبراطورية الرومانية ونبضات قلب انطونيو. جزء من وظيفة الحبّ الخفيّة، في أيّ حال، خلط الشعوب، مدّ جسور بين الطبقات، صهر فئات المجتمع (كلمة "صهر" في العربية تشير، جذريًّا، إلى تغيير مصائر العائلات عبر الانصهار. كم صهراً غيّر، سلْباً أو إيجاباً، مصائر أناس كثيرين؟!) الحبّ كعينيْ طفل لا تعترفان إلاّ بلون واحد للدم. ونبْل الطفولة هو أنّها لا تؤمن بوجود الدم الأزرق.
تقول الحكاية: إنّ عيْن وليّ عهد إحدى الممالك القديمة وقعت على فتاة من عامّة الناس. فتنته، صعقه جمالها السماويّ فصارت تؤرق لياليه وتبلبل لبّه. لم يستطع أن يتغلّب على عواطفه أو على رغباته التي لا تليق بوليّ عهد دمه أزرق. هل ينكسر لفتاة من طبقة ليست من مستواه؟ شعر أنّ المُلْك كلّه قاتم الألوان إنْ لم تشاركه هذه المخلوقة البسيطة والفاتنة مملكته. فتياتٌ كثيراتٌ من عامّة الشعب ومن غير عامّة الشعب يحلمن أن يكون فارس الأحلام يحمل لقب أمير.
قرّر أخيراً الانصياع لنداءات القلب. لم يخطرْ بباله أبداً أنّ عائقاً ما سوف يعترض سبيله إلى فتاة أحلامه، ولكن هذا ما حصل. لم توافق الفتاة البسيطة على طلب الأمير يدها. ولا يعود السبب إلى أن قلبها أو عواطفها كانت مرتبطة بشخْص آخرَ أو أنّ وسامت الأمير دون سموّه. قالت للأمير حين تقدّم منها ببراءة ماكرة: ماذا تعمل؟ ردّ متعجّباً: أنا وليّ عهد مملكة أبي! لم أسألك عن منصبك وإنّما عن عملك. تبلبل الأمير، أيّ فرْق بين المنْصب والعمل؟ أليس المنصب عملاً؟ قالت له: لا أرى في الإمارة مهنةً أو عملاً، إنّ المناصب كالملابس حين لا تكون نابعةً من ذهنك أو جهد يديك، أريد مهنة كجلدك لا تنتزع منك. لم يفهم الأمير تأويل ما تقوله الفتاة. قال بينه وبين نفسه: حقًّا إنّها لغبية. لعنة الله عليك أيها القلب الأحمق الذي وقع أسير فتاة لا تعرف أن تستطعم النعيم.
رمقت الفتاة الفقيرة الأمير نظرة إشفاق قائلة:أقصد ماذا تعرف أن تعمل يا سموّ الأمير؟ أيّ مهنة تتقنها يداك؟ يداي خلقتا للحكم، أجاب، لا لشيء آخر. الحكم ليس مهنة يا سموّ الأمير، وأنا أخاف من ألاعيب المقادير، ولعلّ وضعي على حالي آمنُ من أن أكون أميرة هودجُها ظهْرُ نمر. اعتراضي على حاضرك، يا سموّ الأمير، وليس على شخْصك، ألف واحدة تتمنّاك على الحال التي أنت عليها ولكن لنْ أكون أنا، بالتأكيد، واحدة منهنّ. كلامُها كان يزيده تعلّقاً بها، فهي تكلّمه كلاماً لم يسمعه من قبل، لم تتعوّد أذناه غير الإطراء لمقامه السامي. وهي لا ترى في مقامه أيّ سموّ ذاتيّ. من يكون الأسمى، راح يردّد في سرّه، هي أم أنا؟
اقترحت عليه أن يتعلّم حياكة السجّاد. ماذا؟! أأنزل إلى هذه المنزلة؟ وما نفع حياكة السجّاد لأمير مثلي؟ وأيّ شرف لي أنْ أكون حائك سجّاد؟ الدنيا، يا سموّ الأمير، دولاب دوّار وغدّار؟ دفعه حبّه الصاعق إلى إتقان حياكة السجّاد. كانت السجّادة الأولى الذي صنعها هي المهر الذي اشترطته الفتاة.
رضيت الفتاة القران به بعد أنْ صار في يده مهنة، وعاشا حياتهما في كنف سعادة غامرة. لم يكتشف الأمير قيمة إتقانه حياكة السجّاد إلاّ بعد زمن حيث تمّ الانقضاض على مملكة أبيه ووقع هو في الأسر. دار دولاب الأيّام دورته فاستردّ الأب خلالها مملكته ولكن لم يستردّ ابنه المفقود، قلَب الدنيا بحثاً عن ولده دون جدوى. تحوّل الأمير إلى عبد، ولكن ما خفّف عنْه الشُّعور بالعبوديّة هو مهارته في حياكة السجّاد، والسجّادة كانت تخرج من يديه إلى الدنيا كرسائل الشوق إلى غابر أيامّه. ساقت الأقدار التي تحيك المصائر سجّادة من صنع يديه، ذات يوم، إلى عقْر دار الزوجة، عرفت لمسات صانعها بمجرّد رؤيتها فتأكّدت أنّ زوجها لا يزال على قيْد الحياة وإنْ مقيّداً بأغلال العبودية.
راح الملك يتحرّى عن مصْدر السجّادة إلى أنْ انتهى الأمْر بالعثور على مكان الأمير وتمّ تحريره بفضل أصابعه التي امتهنت حياكة السجّاد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق