اللغة العربية محظوظة بين اللغات رغم سوء حظها الراهن بأبنائها. وذلك لأن لها
وظيفتين: وظيفة تواصلية، ووظيفة دينية. واللغة بضاعة كأية بضاعة أخرى، منهم من ينتج
ولكن لا يعرف ان يصرّف بضاعته او يسوّقها، ومنهم لا ينتج ولكن يعرف ان يصرّف بضاعة
غيره ويسوّقها لحسابه الخاص.
نحن العرب، اليوم، للأسف لا نعرف ما معنى ان تكون اللغة مصدر ثروة، لا أقول معنوية وحسب وإنما مادية أيضاً، أي مصدر رزق كما يكون البترول مصدر رزق او صناعة السيارات او غيرها من الصناعات. ولكن علاقتنا بلغتنا، اليوم، تشبه علاقة إنسان بأرض خصبة غير أنه يراها بعينيه أرضاً بوراً غير صالحة للزراعة.
ومن الأشياء التي تثير غيظ الأذنين تبجّح البعض بصعوبة اللغة العربية والافتخار بذلك. وهذا خطأ فادح (الصعوبة، في أية حال، ليست مدعاة افتخار) أي إننا «نطفّش» الشاري قبل ان يستعرض بضاعتنا اللغوية، ولا أعرف أحداً ينفّر الشاري من بضاعته كما يفعل العرب مع الراغبين في تعلّم لغتهم. فليس هناك لغة صعبة ولغة سهلة، هذا ما يقرّه علماء اللغة اليوم، ومردّ هذه الفكرة الخاطئة هو الخلط بين المكتوب والمنطوق. المنطوق هو رمز صوتي لما يجول في النفس بينما المكتوب هو رمز المنطوق أي إنه، بحسب عبارة ابن خلدون منظّر علم اللغة الاجتماعي، «رمز الرمز». والإنسان يولد وفي فمه صوت ولكن ليس في يده قلم! إن اعتبار اللغة العربية لغة أصعب من غيرها هو من قبيل المسلّمات الوهمية، والبدائه الماكرة.
كل اللغات تقوم بوظائف واحدة من حيث التواصل، وإتقان الطفل للغته الأم أياً كانت هذه اللغة لا تستغرق إلاّ وقتاً واحداً. مثلاً لو ان الصينية أصعب من الانكليزية لاستغرق الطفل الصيني وقتاً أطول من الوقت الذي يستغرقه الطفل الانكليزي في تعلّم لغته، ولو كانت العربية أصعب من الانكليزية لوجدنا الطفل العربي يحبو لغوياً في الوقت الذي يمشي فيه الانكليزي، لغوياً، على قدميه! وما دام الوقت الذي يحتاجه أي طفل لتعلّم لغته الأم واحداً فهذا يعني إن الصعوبة واحدة. والافتخار بصعوبة اللغة العربية خطأ شائع وقاتل، والعربية نفسها من أولى ضحاياه.
ولكن للعربية ميزة عن غيرها من اللغات هي أنها لغة تحمل رسالة دينية أتباعها أكثر عدداً من الناطقين بها. فالمسلمون العرب أقلية في العالم الاسلامي، ولغتهم مرغوبة روحياً من قبل كل مسلم ملتزم بقرآنه. وكان العالم أبو الريحان البيرونيّ يذهب الى القول إن السبّ بالعربية أحلى موقعاً على سمعه من المدح بالفارسية لغته الأم.
ولكن... كل مسلم مؤمن بوجود علاقة روحية مع اللغة العربية، كيف نؤمّن لهذا الغريب المؤمن الذي له ارتباط روحي بالعربية احتياجاته «اللغوية الروحية»؟ أليس تأمين احتياجاته «اللغوية - الروحية» باباً من أبواب الرزق للغة العربية لا نحسن استثماره؟ ليس هناك أي تخطيط او استراتيجية لغوية لتلبية احتياجات الغريب الروحية.
كل مسلم غير عربي هو زبون محتمل للغة العربية، أي ان للغة العربية ما لا يقلّ عن مليار مستهلك محتمل في العالم. سوق طويل عريض يفوق عدد سكان الصين! وكنت قد سمعت ما يشبه النادرة عن علاقة المسلم غير العربي مع الحرف العربي المكتوب الذي تفوح منه رائحة القرآن والأحاديث النبوية وكلام الصحابة، إذ قال لي أحد الأصدقاء إنه يعرف حكاية مسلم باكستاني كان يحضن الحروف العربية ليستمدّ شيئاً من الراحة بعد أزمة كآبة تعتريه. قد يضحك البعض على حكاية الباكستاني ولكن ألفت نظره الى كتاب بول فاتسلافيك Paul Watzlawick أحد أعمدة معهد «بالو آلتو» (لغة التغيير Le langage du changement) وهو كتاب غني ودسم عن دور الكلمة في المعالجة، فالكلمة تجرح او «تداوي» كما يقال.
تصوّر ماذا يفعل «مليار» زبون محتمل في سوق اللغة العربية؟ هل نفكر في «التجارة» الحلال مع هذا الكمّ الوفير من الزبائن؟. طبعاً لا، او ليس بالقدر المطلوب، وخصوصاً أننا لا نعرف تسويق لغتنا حتى لأبناء جلدتنا، فكيف نحسن تسويقها لأبناء جلدة غير جلدتنا؟.
أليس كل شخص أميّ في العالم العربي هو خسارة «زبون لغويّ»، وما يستتبع ذلك من دلالات، فكرية وإبداعية وإنتاجية وإنمائية؟. زبون أميّ يعني أنه لا يفكّر في شراء كتب، ولا تعني القراءة له شيئاً، بل قد تكون بالنسبة اليه تضييع وقت، كما تعني، اقتصادياً، احتمال خسارة بيع كتاب واحد على الأقل!.
اللغة حبّة تضمر سنبلة او شجرة شرط حسن اختيار التربة وحسن المتابعة للحبّة، وهي تنمو من تزويدها بالماء المطلوب والفيتامينات المطلوبة وإلاّ ذهبت طعماً للحشرات والديدان والأمراض.
ولغتنا اليوم شجرة ينخرها السوس لأننا شعب ينخره السوس. أمّة تستورد كل شيء: الأرز، القمح، الأفكار، تستورد كل شيء حتى الأحلام ولا تصدّر إلاّ شيئاً واحداً، شيئاً لا يقدّر بثمن هو أبناؤها، وإن لم تصدّرهم جسدياً فهي تصدّرهم روحياً. من لا يحلم بالهجرة؟.
اللغة على شاكلة حامليها. أرني لغتك أقل لك من أنت. اللغة مرآة صادقة، يستحيل أن تكون مغايراً لشكلك في لغتك، تحمل «جيناتها» في عقلك، في طريقة تفكيرك...
نحن أمّة تثير السخرية لأننا أمّة تسخر من لغتها. ولقد سمعت بأذنيّ فتاة تقول لزميلتها بشفتين متقززتين: «ياااع بْتِقْري عربي؟» وكأن القراءة بالعربية، في هذا الزمن، ضرب من البغاء اللغوي! كيف نعيب من يسخر منّا ونحن، ليل نهار، نسخر من لغتنا، ونفضّل عليها لغات الآخرين؟. ينطبق علينا مثل لا يخلو من بعض القِحة ولكن القِحَة الواقعية: «يستبدل ابنه ببندوق». وماذا يكون من يستبدل «ولده» الذي من صلبه بـ«بندوق» من صلب غيره؟ الانسان العاقل لا يستبدل ابنه حتى ولو كان معاقاً بولد سويّ، هي سنّة المشاعر والعواطف.
اللغة الأم بمثابة أم حقيقية، تقوم مقام رحم صوتية، ولكن في عالمنا العربي، للأسف، الكثير من العقوق! الأمل، في الأخير، ان يكون الحفيد أرأم وأرحم من الابن مع أمّه! وفي الحياة حكايات كثيرة عن عقوق الوليد وبرّ الحفيد.
في أيّ حال، لا يمكن للأمم المأزومة إلاّ ان تكشف عن حالها عبر تعاملها مع لغتها، والعربية اليوم تعلن بكل أبجديتها: إن الانسان العربي كائن مأزوم حتى النخاع الشوكي.
نحن العرب، اليوم، للأسف لا نعرف ما معنى ان تكون اللغة مصدر ثروة، لا أقول معنوية وحسب وإنما مادية أيضاً، أي مصدر رزق كما يكون البترول مصدر رزق او صناعة السيارات او غيرها من الصناعات. ولكن علاقتنا بلغتنا، اليوم، تشبه علاقة إنسان بأرض خصبة غير أنه يراها بعينيه أرضاً بوراً غير صالحة للزراعة.
ومن الأشياء التي تثير غيظ الأذنين تبجّح البعض بصعوبة اللغة العربية والافتخار بذلك. وهذا خطأ فادح (الصعوبة، في أية حال، ليست مدعاة افتخار) أي إننا «نطفّش» الشاري قبل ان يستعرض بضاعتنا اللغوية، ولا أعرف أحداً ينفّر الشاري من بضاعته كما يفعل العرب مع الراغبين في تعلّم لغتهم. فليس هناك لغة صعبة ولغة سهلة، هذا ما يقرّه علماء اللغة اليوم، ومردّ هذه الفكرة الخاطئة هو الخلط بين المكتوب والمنطوق. المنطوق هو رمز صوتي لما يجول في النفس بينما المكتوب هو رمز المنطوق أي إنه، بحسب عبارة ابن خلدون منظّر علم اللغة الاجتماعي، «رمز الرمز». والإنسان يولد وفي فمه صوت ولكن ليس في يده قلم! إن اعتبار اللغة العربية لغة أصعب من غيرها هو من قبيل المسلّمات الوهمية، والبدائه الماكرة.
كل اللغات تقوم بوظائف واحدة من حيث التواصل، وإتقان الطفل للغته الأم أياً كانت هذه اللغة لا تستغرق إلاّ وقتاً واحداً. مثلاً لو ان الصينية أصعب من الانكليزية لاستغرق الطفل الصيني وقتاً أطول من الوقت الذي يستغرقه الطفل الانكليزي في تعلّم لغته، ولو كانت العربية أصعب من الانكليزية لوجدنا الطفل العربي يحبو لغوياً في الوقت الذي يمشي فيه الانكليزي، لغوياً، على قدميه! وما دام الوقت الذي يحتاجه أي طفل لتعلّم لغته الأم واحداً فهذا يعني إن الصعوبة واحدة. والافتخار بصعوبة اللغة العربية خطأ شائع وقاتل، والعربية نفسها من أولى ضحاياه.
ولكن للعربية ميزة عن غيرها من اللغات هي أنها لغة تحمل رسالة دينية أتباعها أكثر عدداً من الناطقين بها. فالمسلمون العرب أقلية في العالم الاسلامي، ولغتهم مرغوبة روحياً من قبل كل مسلم ملتزم بقرآنه. وكان العالم أبو الريحان البيرونيّ يذهب الى القول إن السبّ بالعربية أحلى موقعاً على سمعه من المدح بالفارسية لغته الأم.
ولكن... كل مسلم مؤمن بوجود علاقة روحية مع اللغة العربية، كيف نؤمّن لهذا الغريب المؤمن الذي له ارتباط روحي بالعربية احتياجاته «اللغوية الروحية»؟ أليس تأمين احتياجاته «اللغوية - الروحية» باباً من أبواب الرزق للغة العربية لا نحسن استثماره؟ ليس هناك أي تخطيط او استراتيجية لغوية لتلبية احتياجات الغريب الروحية.
كل مسلم غير عربي هو زبون محتمل للغة العربية، أي ان للغة العربية ما لا يقلّ عن مليار مستهلك محتمل في العالم. سوق طويل عريض يفوق عدد سكان الصين! وكنت قد سمعت ما يشبه النادرة عن علاقة المسلم غير العربي مع الحرف العربي المكتوب الذي تفوح منه رائحة القرآن والأحاديث النبوية وكلام الصحابة، إذ قال لي أحد الأصدقاء إنه يعرف حكاية مسلم باكستاني كان يحضن الحروف العربية ليستمدّ شيئاً من الراحة بعد أزمة كآبة تعتريه. قد يضحك البعض على حكاية الباكستاني ولكن ألفت نظره الى كتاب بول فاتسلافيك Paul Watzlawick أحد أعمدة معهد «بالو آلتو» (لغة التغيير Le langage du changement) وهو كتاب غني ودسم عن دور الكلمة في المعالجة، فالكلمة تجرح او «تداوي» كما يقال.
تصوّر ماذا يفعل «مليار» زبون محتمل في سوق اللغة العربية؟ هل نفكر في «التجارة» الحلال مع هذا الكمّ الوفير من الزبائن؟. طبعاً لا، او ليس بالقدر المطلوب، وخصوصاً أننا لا نعرف تسويق لغتنا حتى لأبناء جلدتنا، فكيف نحسن تسويقها لأبناء جلدة غير جلدتنا؟.
أليس كل شخص أميّ في العالم العربي هو خسارة «زبون لغويّ»، وما يستتبع ذلك من دلالات، فكرية وإبداعية وإنتاجية وإنمائية؟. زبون أميّ يعني أنه لا يفكّر في شراء كتب، ولا تعني القراءة له شيئاً، بل قد تكون بالنسبة اليه تضييع وقت، كما تعني، اقتصادياً، احتمال خسارة بيع كتاب واحد على الأقل!.
اللغة حبّة تضمر سنبلة او شجرة شرط حسن اختيار التربة وحسن المتابعة للحبّة، وهي تنمو من تزويدها بالماء المطلوب والفيتامينات المطلوبة وإلاّ ذهبت طعماً للحشرات والديدان والأمراض.
ولغتنا اليوم شجرة ينخرها السوس لأننا شعب ينخره السوس. أمّة تستورد كل شيء: الأرز، القمح، الأفكار، تستورد كل شيء حتى الأحلام ولا تصدّر إلاّ شيئاً واحداً، شيئاً لا يقدّر بثمن هو أبناؤها، وإن لم تصدّرهم جسدياً فهي تصدّرهم روحياً. من لا يحلم بالهجرة؟.
اللغة على شاكلة حامليها. أرني لغتك أقل لك من أنت. اللغة مرآة صادقة، يستحيل أن تكون مغايراً لشكلك في لغتك، تحمل «جيناتها» في عقلك، في طريقة تفكيرك...
نحن أمّة تثير السخرية لأننا أمّة تسخر من لغتها. ولقد سمعت بأذنيّ فتاة تقول لزميلتها بشفتين متقززتين: «ياااع بْتِقْري عربي؟» وكأن القراءة بالعربية، في هذا الزمن، ضرب من البغاء اللغوي! كيف نعيب من يسخر منّا ونحن، ليل نهار، نسخر من لغتنا، ونفضّل عليها لغات الآخرين؟. ينطبق علينا مثل لا يخلو من بعض القِحة ولكن القِحَة الواقعية: «يستبدل ابنه ببندوق». وماذا يكون من يستبدل «ولده» الذي من صلبه بـ«بندوق» من صلب غيره؟ الانسان العاقل لا يستبدل ابنه حتى ولو كان معاقاً بولد سويّ، هي سنّة المشاعر والعواطف.
اللغة الأم بمثابة أم حقيقية، تقوم مقام رحم صوتية، ولكن في عالمنا العربي، للأسف، الكثير من العقوق! الأمل، في الأخير، ان يكون الحفيد أرأم وأرحم من الابن مع أمّه! وفي الحياة حكايات كثيرة عن عقوق الوليد وبرّ الحفيد.
في أيّ حال، لا يمكن للأمم المأزومة إلاّ ان تكشف عن حالها عبر تعاملها مع لغتها، والعربية اليوم تعلن بكل أبجديتها: إن الانسان العربي كائن مأزوم حتى النخاع الشوكي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق