قد ينفر بعض القرّاء من هذه الحكاية التي لا تخلو تفاصيلُها من طريف
الأحداث، وهي عن كلام خرج من فم جمجمة! وقد يقول قائل ما لنا وهذا الكلام الموحش،
وما فينا يكفينا. وهل الجماجم، أَصْلاً، تحكي؟ ولِم لا؟ لا شيءَ في عالم الحكايات
يمنع من ذلك. قارىء حكايات "إيسوب" و" كليلة ودمنة " و" هاري
بوتر" وغيرها من الحكايات يعرف أنّ كلّ شيء قادرٌ على النُّطْق، فهو ليس
وقْفاً على الأحْياء، وإن اختلفت وسائل التعبير وأدواته. هذا ما أدركه، في أيّ
حال، كاتبُنا الجاحظ فتناوله بعُمْقٍ وحِذْقٍ في كتاب "الحيوان"، وفي
كتاب " البيان والتبيين"، وفي عدد من رسائله الفذّة.
تحكي الحكاية عن صيّاد نشيط يذهب فجْر كلِّ يَوْمٍ إلى البحر، ويعيش
مسروراً، هانئاً، قانعاً بالرزق الذي يَقْطِفه من ثمرات البحر.وبينما كان، في إحدى
المرّات، ينتظر أنْ تعلق سمكة في صنّارته، التفت إلى يمينه، فَنَقَزَ قلبُه حين
رأى بالقرب منه جمجمة، لم يكن قد انتبه إليها من قبل. والجمجمة الخرساء تثير
القشعريرة وتوقف شعر البدن حين تنظر إليك بمِحْجَرَيْنِ أَجْوفَيْنِ، فما بالك
بجمجمة لم تفارقها ملكة الكلام، أيْ بقيت محتفظةً بخاصية النُّطْق التي كانت لها
في حياتها اللحميّة؟ فانتاب الصيّادَ رعبٌ وعجب. ولم يستطعْ أنْ يعرفَ ما إذا كانت
هذه الجمجمةُ موجودةً من قبلُ في المكان الذي وصل إليه أم أنّها لحقت به، على غفلة
منه، بعد أن استقرّ في مقامه المعهود للصَّيْد. لم يستطعْ أنْ يعرفَ ما إذا كانت
موجةٌ مجنونةٌ ساديّة قد حملت إليه هذه الجمجمة لتعكير زرقة البحر في ناظِرَيْه.
الحيرة بلبلت ذهنه. نسي الصيّاد أنّه صيّاد، ونسي الصنّارة ونسي السمك ولا سيّما
حين تساءل بينه وبين نَفْسِه: مَنْ جاء بها، يا ترى، إلى هنا؟ وهو تساؤل يقوله كلّ
إنسان مخاطباً به نفسه في لحظة اندهاش، وكم صُعِق حين سمع لسؤاله جواباً قصيرا
ًيخرج كالصدى المبحوح من فم الجمجمة وهو: "الحكي، الحكي". لم تتفوّه
الجمجمة بغير هذه العبارة.أيّ حكي؟ تساءَل الصيّاد، ولكن الجمجمة لم تُفْصِحْ عن
أيّ مزيد. اكتفت بهذا الجواب المختصر، المُلْغِز، الذي تكرّره عقب كلّ سؤال. وقع
الصيّاد في حيرة. كان يودّ أن يعرف تفاصيلَ أكثرَ إلاّ أنّ الجمجمة كانت شحيحة
الكلام. شعر الصيّاد كما لو أنّ معجزة نبتت من فم الجمجمة، فقرّر أنْ يذهبَ إلى
المدينة ويخبرَ الملك بالقصّة. فالإنسان لا يحبُّ أنْ يعيش العجائب بمفرده ويرغب
في أنْ يشاركَه الآخرونَ معايشةَ الدَّهْشة. وصل إلى الملك وطلب الدخول إليه،
واللهفةُ تنقُط من عينَيْه. أخبر الصيّاد الملك بما رأى. لم يصدِّق الملك. ظنّ أنّ
الصيّاد مجنونٌ يهذي ويهلوس إذْ منذ متى اكتسبت الجماجمُ عادة الثَّرْثَرَةِ ؟ بعد
إلحاح الصيّاد على الملك، وبعد ألفِ يمينٍ ويمينٍ بأنّه يقول ما يقول وهو بكامل
وعيه وعقله، ثار الفضولُ في عينَيْ الملك وقرّر الذهاب إلى البحر بمرافقةِ حاشيتِه
والصيّاد للقاء المعجزةِ الناطقةِ وَجْهاً لِوَجْه. ولكنَّ الملك كان قد حذّر
الصيّاد بأنّ الكذب لن يكونَ مأمونَ العواقب. رأسك سيكون ثمن الكذب، قال الملك.
وافق الصيّاد لأنّ ما رآه يجعل رأسه في مأمنٍ من القَصّ. فالجمجمة ليست وهماً أو
أضغاثَ أحلام، فهو قد لمس منها العظام بأصابعه وسمع رنّة صوتها بأذنَيْه.
رافق الملك الصيّاد إلى شاطىء البحر. وهناك وجد الجمجمة على حطّة يده. تنفّس،
طَبْعاً، الصعداء إذْ كان قد شعر لبرهة، في أيّ حال، ببعض القلق، لأنّه كان من
الممكن أنْ يغدر به موج البحر، ويسرقها من على الشاطىء.
دنا الصيّاد من الجمجمة وخاطبها، على مرأى ومَسْمَعٍ من الملك، قائلاً: من
أتى بكِ إلى هنا أيّتها الجمجمة؟ وتوقّع أن تجيبه:"الحكي"، إلاّ أنّها
لم تنبِسْ ببنت شفة، ظلّت خرساءَ، لم يتحرّكْ منها فكّ. استغرب الصيّاد ودهمه خوف
فكرّر السؤال مرّةً وثانيةً وثالثةً والجمجمةُ صامتةٌ صمتَ القبور. تضرّع إليها محاولاً
استدرارَ شفقتِها أو صوتِها. رأسي في خطر، قال لها بصوتٍ متآكل. لم تردّ، ولم تأبَهْ
بتضرّعاته أو ترأفْ بحاله، وتركته يواجه، أعزلَ، مصيرَه الدامي. وهنا، لم يكن من
السيّاف إلاّ أنْ قطع رأس الصيّاد استجابةً لأمْرِ الملك فتدحرج الرأس حتى استقرّ
بجوار الجمجمة.
بعد أن انصرفَ الملك وحاشيته استعادت الجمجمة شهوة الكلام فخاطبت الرأس
المقطوع قائلةً له:يا رأس، يا رأس، ما الذي أتى بك إلى جواري؟ وأصغت الجمجمة
باستغراب إلى جواب الرأس، إذْ كان هو نفسه الذي خرج من فمها في أوّل لقاء لها مع
الصيّاد: "الحكي، الحكي"!
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق