"الصبح المُنبي عن حيثيّة المتنبّي" كتاب ممتع
ألّفه يوسف البديعيّ، وجمع فيه الكثير من أخبار الشاعر أبي الطيّب المتنبي
الحياتية التفصيلية الصغيرة, وهذه الأخبار تشبه قطعاً فسيفسائيةً ملونة متناثرة
يؤدي تجميعها وتركيبها إلى تشكيل لوحة شيّقة نابضة لحياة المتنبي الصاخبة بكل ما
فيها من مكابدات البدايات، كما أن البديعيّ تتبّع رحلات الشاعر في جغرافيا العالم
الإسلامي الفسيح ولقاءاته مع أسياد ذلك العصر، وصراعاته وخصوماته مع الآخرين ومع
الذات على السواء، ولا يخلو الكتاب من طريف المقارنات بينه وبين شعراء سابقين
ولاحقين.
أورد يوسف
البديعيّ خبراً لم يلفت نظر أحد, فيما يبدو, ممن كتب عن شعر المتنبّي أو حياته, مع
أن الخبر عبارة عن نصّ دالّ كاشف ومضيء – ألم يدخل الكاتب كلمة "الصبح"
في مفتتح عنوانه؟ - عن دور الأشياء البسيطة في تشكيل منعطفات حياتية حادّة صاغت إلى
حدّ بعيد شخصية هذا الشاعر. إنّ الإنسان تعترضه
في مسالك العمر، أحياناً، أشياء بسيطة جدّا, تصل بساطتها إلى حدود التفاهة, فلا يعيرها المرء أدنى اهتمام, إلاّ أنها تكون
بمثابة تحولات حادّة في مسيرة
المرء تترك بصماتها الخفيّة والفاعلة في تصرّفاته وكلامه, فما بالك بكلام شاعر من
طراز المتنبي الذي "ملأ الدنيا وشغل الناس" بحسب العبارة السائرة التي
وردت في كتاب "العمدة" لابن رشيق القيروانيّ إذ لم يستطع أيّ شاعر عربيّ
آخرْ أن يتبوّأ المقام السامق الذي تبوّأه أبو الطيّب المتنبّي في دنيا الشعر
العربي - والتاريخ غربال واسع الثقوب- لا في القديم ولا في الحديث. ولعلّه الشاعر
الوحيد الذي لا يمكن لنا أن نحصر ما كتب عنه مدْحاً وقدحاً, أو تعليقاً وشرحاً.
ينقل الخبر الصغير الذي استوقفني قصّة حدثت مع المتنبي
في مقتبل عمره رواها بلسانه، على ندرة ما وردنا بلسانه، نثراً، من شؤون ذاتية
دالّة، وجاء في الخبر: "أذكر وقد وردت، في صباي، من الكوفة إلى بغداد, فأخذت
خمسة دراهم في جانب منديلي, وخرجت أمشي في أسواق بغداد, فمررت بصاحب دكّان يبيع
الفاكهة, فرأيت عنده خمسة من البطيخ باكورة (أوّل نزوله مما يعني إنّ شهوة النفس
إليه أكبر), فاستحسنتها ونويت اشتريها بالدراهم التي معي, فتقدمت إليه وقلت: بكم
تبيع الخمسة بطاطيخ, فقال بغير اكتراث: اذهب, فليس هذا من أكلك, فتماسكتُ معه
وقلت: أيّها الرجل دعْ ما يغيظ واقصد الثمن, فقال: ثمنها عشرة دراهم. فلشدّة ما
جبهني به ما استطعت أن أخاطبه في المساومة, فوقفت حائراً, ودفعت له خمسة دراهم,
فلم يقبل, وإذا بشيخ من التجّار، وقد خرج من الخان, ذاهباً إلى داره, فوثب إليه
صاحب البطيخ من دكّانه, ودعا له, وقال له: يا مولاي, هذا بطّيخ باكور, بإجازتك
أحمله إلى منزلك. فقال الشيخ: ويحك بكم هذا؟ قال: بخمسة دراهم. فقال: بل بدرهمين. فباعه
الخمسة بدرهمين, وحملها إلى داره, ودعا له, وعاد إلى دكّانه مسروراً بما فعل, فقلت
له: يا هذا, ما رأيت أعجبَ من جهْلك, استمتّ عليّ في هذا البطّيخ, وفعلت فعلتك
التي فعلت, وكنت قد أعطيتك في ثمنه خمسة دراهم, فبعته بدرهمين محمولاً. فقال: اسكت
هذا يملك مئة ألف دينار. فعلمت أنّ الناس لا يكرمون أحداً إكرامهم من يعتقدون أنّه
يملك مئة ألف دينار, وأنا لا أزال على ما تراه حتى أسمع الناس يقولون: إنّ أبا
الطيّب قد ملك مئة ألف دينار". (وللدينار الأصفر، في ذلك الزمان، وقْع
الدولار الأخضر!).
لا أعرف إنْ كان بائع البطيخ أدّى دوراً سلبياً أو إيجابياً
في حياة المتنبي اليافع, إلاّ أنه دفعه، لا ريب، إلى أن يتبنى نظرة في الحياة ليس
بالضرورة أن تكون نظرته قبل أن تقع هذه الحادثة معه على باب دكّان الفاكهة. لقد
حقّق الشاعر، بفضل لسانه وبيانه، رغبته في جمع المال, فيما بعد, وعاش حياة منعمة لا
تؤرقها الهموم الماديّة ( حتى أنه أنعل أفراسه بالذهب كما ورد في إحدى سَيْفِيّاته),
وسمع الناس يقولون إنّه من أصحاب المال, ومع هذا ظلّت أحلامه الجامحة همًّا نفسيًّا
شائكاً رابضاً في جنبات روحه يقضّ مضجعه, لأنّه لم يحقّق كلّ ما سعى إليه.
ومن يقرأ ديوان المتنبي يلحظ أنّ شعره لا يخلو من أبيات
كثيرة يشكّل المال عصبها الشعريّ ومدار دلالتها. علاقة المال بالمجْد لا تختلف، كما
يرى المتنبي، عن علاقة الكفّ بالزَّنْد، فالمتنبي يعتبر المال الوجه الآخر للمجد,
كما ذكر ذلك في قصيدة كافوريّة شديدة التوتّر منها هذا البيت الذي يفتتحه
بـ"لا" النافية للجنس تأكيداً على ذلك التضامّ الحميم بين المجد والمال:
فلا مجد، في الدنيا، لمن قلّ ماله
ولا مالَ، في الدنيا، لمن قلّ مجده
هل كانت مأساة المتنبّي في أنه أراد أن يتحدّى محتوى المثل
الشائع ويحمل أكثر من بطيخة في يد واحدة, بطّيخة السلطة وبطّيخة المال وبطّيخة
الشعر؟
ذكرت ثلاث
بطيخات فقط في حين أنّ المتنبي كما ورد في الخبر كان يريد أن يشتري، دفعة واحدة، خمس
بطيخات!
بلال عبد
الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق