الاثنين، 11 مايو 2015

سلمى الحايك ونبيّ جبران بقلم سوسن الأبطح


نبيّ سلمى الحايك


ثمة ما هو أهم من الجنسية بصيغتها الورقية. حضن الوطن ليس جواز سفر مزينًا بالأرزة ومجموعة من الأغنيات الحماسية، وصحن تبولة. كفاح بعض الأحزاب اللبنانية لإقرار قانون استعادة الجنسية للمغتربين، على أهميته، يبقى منقوصًا طالما أن الأرض تلفظ أبناءها، وسوء المعاملة يدفع بهم إلى ما وراء البحار.
بالأمس جاءت سلمى حايك، المكسيكية المنشأ، اللبنانية أبًا عن جد، بأشواقها، وحبها، ودموعها التي بقيت تترقرق في عينيها حنينًا، حاملة إلى لبنان هدية لم يقدمها له مثيل لها من قبل. اختارت «القنبلة الهوليوودية» بيروت، دون لندن وباريس ونيويورك، كي تطلق فيلمها «النبي»، قائلة إنها لم ترد العودة إلى وطنها خالية اليدين، طالبة من اللبنانيين أن ينصروا عملها، لينافس أضخم الأفلام. جاءت ومعها قبيلة من الفنانين العالميين، وفي جعبتها عمل فريد في رهافته وعبقريته، حاكته مع شركائها رسومًا متحركة شرقية الهوية، لبنانية الروح، إنسانية النكهة. وحرصت حايك على حملة إعلامية تصل إلى كل بيت ومدرسة.
أرادت المغتربة الممتلئة بالحنين، أن تعيد الاعتبار لمغترب آخر، هو جبران خليل جبران، إن أنت ذهبت اليوم لتزور منزله في «بشري» الذي تحول إلى متحف، تتلقفك المسؤولة عنه، وكأنها عثرت على كنز لقلة الرواد والزائرين. ولا بد أن تسأل نفسك، أمام هذا الإدبار، أين تلامذة المدارس، وعشاق الأدب، ومحبو المعرفة؟ لماذا يهجرون هذا الكنز المتهادي على كتف وادي قاديشا المهيب؟
يبدو أن سلمى حايك ليست أكبر حظًا، في موطنها من صاحب «النبي» و«المجنون»، ومثلهما مغترب لبناني ثالث هو العالمي غابريل يارد الذي زود مشاهد الفيلم بموسيقى أقل ما يقال فيها أنها مجنّحة وقادرة على حمل المتفرج إلى فضاءات مبهرة. فبينما كانت صحف الدنيا تتحين وصول الفيلم وبدء عرضه في دولها، يمكنك أن تدخل إلى الصالات اللبنانية التي على شرف جمهورها أنجز العمل، ولأجل عينيه أبصر النور، لتراها خالية إلا من بعض الفضوليين الشغوفين.
حقًا «لا كرامة لنبي في قومه» كما تقول العبارة الإنجيلية الشهيرة، وتقدير التحفة السينمائية التي شارك فيها تسعة مخرجين ومثلهم من المنتجين، هو ترف لم يعط لمن فضل فيلم «غنوجة بيا» حين ضاقت به الصالات أو «يلا عقبالكن» الذي حصد 38 ألف متفرج في عشرة أيام. ومع التقدير للفيلمين الأخيرين خفيفي الظل، إلا أن «النبي» من خامة الشرائط التي كل لقطة منها لوحة رسمت لتكون نافذة للحلم والتفكر وصقل الروح، وهي تمتزج بكلمات جبران الأثيرية.
ظاهرة الصدود عن الجمال ناتجة عن سوء فهم عميق، وعن قصور في الرؤية الثقافية الشعبية. لا يتردد أحد مديري السينمات الكبرى في القول بأن «النبي» فيه خطأ جوهري. لماذا لم يجعلوه فيلمًا عاديًا ويسندوا أدواره إلى ممثلين لبنانيين؟ أليس عندنا مواهب؟ ويعترض آخر لأن الرسوم المتحركة هي فن للصغار ومضمون الفيلم للكبار، والالتباس نبع من هنا. ماذا نقول لسلمى حايك؟ إن اللبنانيين لا يعرفون أن الرسوم المتحركة لم تعد حكرًا على الصغار وأنها في اليابان تدر ملايين الدولارات، ويقرأ مجلات «المانجا» المصورة رجال الأعمال كما تلامذة المدارس؟ البون شاسع بين رؤية امرأة تربت على يدي والدة كانت الأوبرا ملء حياتها، وجمهور محبوس في صندوق التقليديات العتيقة، كما هي الهوة هائلة بين كارلوس سليم الذي حظي بلقب أغنى رجل في العالم، وبلده الذي يود أن يقيم فيه مشاريعه لكنه ينتظر أن يصبح مزودًا بالكهرباء. والحال ذاتها بين شارل عشي، الذي كان مشرفًا في «الناسا» على هبوط المسبار «سبريت» لاستكشاف المريخ، فيما وطنه لا تزال فيه الإنترنت بطيئة كسلحفاة.
مجموعة من البنك الدولي تعمل على مشروع لربط لبنان بمغتربيه؛ فهؤلاء بمقدورهم أن يشكلوا بإمكاناتهم الهائلة طوق نجاة للبلد الصغير، وتوسعًا جغرافيًا لرقعته الضيقة يجعلها على امتداد القارات. فمنذ عهد المتصرفية ولبنان ينزف أدمغة وشبابًا متوقدًا، ومنذ 2006 وهو يشيخ ويذوي. مشروع البنك الدولي، على أهميته، يأتي في غير موعده. الأزمة في الذهنية، في الرؤيا إلى الذات، في الإيمان بالجديد، والتطلع إلى التغيير، في المسافة الفاصلة بين منطقة تنهش نفسها وتنقسم على ذاتها، وعالم أذكياؤه تحرروا من عقدة المكان. حين سئلت سلمى حايك: لماذا لم تذكر كلمة لبنان في الفيلم، رغم أن بلاد الأرز هي روح العمل؟ أجابت ببساطة: «كسرنا كل القواعد التي تحكم السينما، كما خالفنا توقعاتكم كمشاهدين، وأخذنا كلاً منكم إلى عالم خاص. بالأفكار الجديدة فقط يمكننا تغيير العالم».
ثمة من ينشد الاجترار، هناك من لا يقبل أن لا يرفرف علم لبنان في الفيلم. البعض كان ينتظر المباشرة، ولم يرق له هذا النبل في مقاربة الوطن. شرحت الممثلة الهوليوودية أن تقديم جبران كلبناني قادر على رؤية البشر كبشر فقط بكل إنسانية، عبر مخرجين من جنسيات وأديان مختلفة، هو أمر مهم جدًا للبنان والعالم العربي في الوقت الراهن.
لكن الهوة كبيرة بين ذهنية لبنان المغترب والمقيم، رغم العواطف الجياشة والدموع الفياضة. غربة جبران وأمين الريحاني وإيليا أبو ماضي، لا تزال حية ومعاناتهم متواصلة. لا تحتاج سلمى حايك إلى الجنسية اللبنانية التي سلمت لها، بقدر حاجتها إلى الاعتراف بجهدها والاستمتاع بفيلمها ولسان حالها يقول ما نطق به «المصطفى» في كتاب «النبي» إنكم «لا تنظرون ولا تسمعون، وحسنًا تفعلون. فإن الحجاب المسدول على عيونكم سترفعه اليد التي حاكته. والطين الذي يسد آذانكم ستنزعه الأصابع التي جبلته. وحينئذ تبصرون. وحينئذ تسمعون. بيد أنكم لن تتحسروا أنكم كنتم عميًا ولا صمًا. لأنكم حينئذ ستعرفون المقاصد الخفية في كل شيء».

عن جريدة الشرق الأوسط
http://aawsat.com/home/article/357316/%D8%B3%D9%88%D8%B3%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%A8%D8%B7%D8%AD/%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%89-%D9%88%C2%AB%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A8%D9%8A%C2%BB

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق