لا أعرف الصلة القائمة بين اللغة والتفّاح، ولكنّ من
الطريف الإشارة إلى أنّ إمام النحاة العرب هو "سيبويه" الذي دخل اسمه في
حيّز الأمثال والنماذج البشرية ودخل أيضاً في مجال السخرية، فإذا تفاصح أحد الناس
أو تقعّر في كلامه أو نظر إلى اللغة نظرة حنبلية نقول عنه: "مفتكر حالو
سيبويه". ولكن اكتشفت على شيوع اسم سيبويه أن عددا لا يستهان به من الطلاب لم
يعبر اسمه أسماعهم ولا أتكلم فقط عن طلاب المدارس وإنما أيضاً عن طلاب الجامعات.
ما كنت أتيت على ذكر "سيبويه" لو لم يرتبط معنى اسمه بالتفّاح. فسيبويه
كلمة "فارسية" (وقد يرى البعض أنها ذات نكهة "مجوسية!") وهي
تعني رائحة التفاح. هل علاقة اسم سيبويه بالتفّاح هي ما دفعت لغويّا عربيّا آخر هو
أبو جعفر النحّاس إلى تأليف كتاب في النحو بعنوان " التفاحة في النحو"؟
يبدو أن علاقة اللغة بالتفاح ليست علاقة عربية فقط إذ
لجأ عالم لغوي أمريكي شهير هو ليونارد بلومفيلدLeonard Bloomfield)
) إلى استخدام التفّاحة في التعبير عن وجهة نظره اللغوية،
ونظريته اللغوية على ما لها من حسنات وقدرات على تفسير بعض مناحي السلوك البشري
اللغوي إلاّ أنها كانت شديدة الخبث، فمرتكزاتها تقوم على إنّ الإنسان كائن يمكن أن
تلعب به(لغويّاً) كيفما شئت. سلوكه الذي يسلكه ليس سلوكاً نابتاً من تلافيف دماغه
وإنمّا من أفواه غيره. إنّه كائن، في نظر المدرسة السلوكية التي ينتمي إليها
العالم اللغوي بلومفيلد، تلتبس عليه الأمور فلا يعود يعرف الحدود الفاصلة بين
الفعل ورد الفعل. وما دام مفتاح السلوك بين يديك فأنت تملك أدوات اللعب بالآخر إذ
ليس كل الآخرين مجهزين بوسائل دفاعية تسمح لهم بأخذ الحيطة والحذر في منطقة الحدود
اللزجة بين الفعل وردّ الفعل. وأكثر الناس بؤساً هو الذي لا يعرف إنّ الفعل الذي
يقوم به ليس فعلاً وإنما ردّ فعل له شكل الفعل لا فحواه.
كان بلومفيلد يريد أن يدرس اللغة البشرية. ولا ريب في أن
اللغة لا تزال، إلى اليوم، غامضة في كثير من مناحيها. وتحولت بسبب ما يكتنفها من
غموض إلى عنصر جذْب. فاللغة ساحرة، ماكرة، قادرة على تغيير المصائر، يكفي الإنصات
إلى بعض التعابير الشائعة التي تخصها فمن "كلمة شافية" إلى "كلمة
جارحة"، الى "كلمة(حلوة) لها طعم العسل!".
قام بلومفيلد لتوضيح فكره السلوكي واللغوي بالوقوف عند
حكاية بسيطة جدا، تدور مع أناس كثيرين في حياتهم اليومية فهو يروي حكاية شخصين هما
الفتى جاك والفتاة جيل. كانا يتمشيان، ذات يوم، في إحدى الطرقات وكانت جيل جائعة
فرأت تفاحة على شجرة، فكلمت زميلها جاك ليحضر لها التفاحة فما كان منه إلا أن قفز
عن السياج وتسلق الشجرة وجاءها بالتفاحة. هذه القصة على بساطتها يعالجها بلومفيلد
من زوايا مختلفة. إنّ أي حدث كما نرى تتشابك فيه أمور كلامية بأخرى غير كلامية أي
أحداث. يرى بلومفيلد إن الحكاية تتضمن ثلاثة أمور. أولا، هناك أحداث سبقت عملية
الكلام. وثانيا، هناك الكلام ثمّ ثالثا، أحداث مستجدّة كانت ترجمة عملية لفعل
الكلام. الأشياء العملية التي سبقت الكلام هي إحساس جيل بالجوع، كان يمكن لجيل أن
تقوم بنفسها في تسلق الشجرة والحصول بجهد يديها على التفاحة إلاّ أنها فضلت إنجاز
رغبتها بالواسطة الكلامية فكان أن عبرت عن إحساسها بالجوع لرفيقها جاك وطلبت منه القيام
بالقفز بدلاً عنها وتسلّق الشجرة بدلا عنها لقطف التفاحة، وهي كلها حركات وإنجازات
ليست لغوية كان مبعثها كلمات تفوه بها فم جيل.
ما نلحظه هنا إن إحساسا ما أدى الى كلام، والكلام أدى
الى فعل. كان مثير الكلام عند الفتاة مشهدياً أي أن التفاحة هي التي ذكرتها بأحاسيس
الجوع. ولكن جيل ليس جائعا وهو قام بكل الأفعال التي يقوم بها الجائع عبر مثير لا
علاقة له بجوعه وإنما بجوع غيره أي أنه مثير بديل. الفارق بين المثير الطبيعي
والمثير البديل هو المساحة المراوغة التي اعترض عليها نحويّ آخر من أميركا أيضا
وهو النحويّ الأبرز اليوم في الولايات الأميركية المتحدة والعالم وهو "نوعام
تشومسكي" (Noam Chomsky ) كان اعتراضه الصاخب على نظرية
بلومفيلد السلوكية سبباً من أسباب توهينها وتداعيها لأنه رأى وراء حكاية التفاحة
البسيطة خبثاً طاغيا مندساً في مذاقها المعسول لأنها تنظر الى الحدث من منظور واحد
هو الفعل ورد الفعل. والفعل الواحد عملياً، وإنسانياً، لا يمكن أن يحبس في رد فعل
واحد.( كان يمكن لجاك أن يرفض تسلّق الشجرة أو اختيار أكلة أخرى تسد جوع جيل). إنّ
الإنسان الحرّ يملك مروحة هائلة من ردود الأفعال وفي حال سلبه هذه المروحة أو
إقناعه بعدم وجودها تحوله، من غير أن يدري، الى آلة أو إلى كائن من طبيعة كائنات
العالم الروسيّ "بافلوف".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق