الجمعة، 11 ديسمبر 2015

حدود الحواسّ وحدود الحضارات

إضافة تسمية توضيحية



يقدم الكاتب الفرنسي دافيد لو بريتون في مصنّفه الجديد" مذاق العالم، أنتروبولوجيا الحواس"، الصادر في باريس عن دار "ميتالْيِهْ" قراءة ممتعة ورصينة لعلاقة الشعوب والحضارات مع حواسّها الخمس. فهو يظهر ان الإنسان ليس واحدا في تعامله مع حواسّه. فإن كانت الحياة مثلا في مجتمع ما "وجهة نظر" لأنها تعتمد في سلوكياتها اليومية أكثر ما تعتمد على حاسّة النظر، كما هو الحال في الحضارة الغربية، فالأمر ليس عاما ينتظم كل الحضارات. فنحن نرى ان المرادف اللغوي لهذا التعبير قد يكون "طريقة شمّ"، أو "طريقة إصغاء". إن الحضارات تحددها الحواس، فثمة حضارة تنطلق في تعاملها مع الحياة انطلاقة لمسيّة، وأخرى سمعية، وثالثة شمّيّة، ورابعة ذوقيّة. والثقافة هي التي تحدد الملامح الشخصية لكلّ حاسة، وتؤطّرها. من هنا اختلاف الحضارات بعضها عن بعض، وتمايزها في تركيب ثنائياتها، الملموس والممنوع لمسه، المرئي وغير المرئي، ما له طعم وعديم الطعم... إلخ. ويشير الكاتب إلى ان الدراسات التي تقارب الحضارات من منطلقات الحواسّ حديثة النشأة، وهي راجت أوّل ما راجت في الولايات المتحدة الأمريكية حيث يكثر البحّاثة المهتمّون بهذا النمط من الدراسات بغية معرفة أثر الحواسّ على تشكيل بنية النظم الاجتماعية للشعوب.
ان التعبير المرادف، في الصين مثلا، لعبارة "وجهاً لوجه" هو "أنفاً لأنف"، أما لدى شعب "أونجي" الساكن في جزر خليج البنغال فإنه حين يريد الاطمئنان عن صحة أحد لا يستعمل عبارة: كيف حالك؟ أو كيف صحتك؟ وإنما يستعمل عبارة طريفة هي: كيف حال أنفك؟ فهل حاسّة الشم، في الصين، أو جزر البنغال، لها الدور نفسه الذي تؤديه في بلاد أخرى ليس للأنف هذا الدور البارز بروز الأنف نفسه في الوجه؟ يعتبر الكاتب أن وظيفة الانتروبولوجيّ لا تختلف عن وظيفة المستكشف لمختلف طبقات الحواسّ وفوارق تداخلها من حضارة إلى أخرى. فالمعنى لا ينبت ويترعرع إلا في تربة الحواسّ الخصبة، من هنا يرى أن مقولة ديكارت التي يقول فيها: "أنا أفكر إذا أنا موجود" ليست صائبة تماما، والأصوب منها مقولة:" أنا أحسّ إذا أنا موجود". فالمعنى ابن الحواسّ باعتبارها أبواب المعرفة، وإدانة هذه الحاسة أو تلك في بعض المجتمعات تعتبر بمثابة حدود جغرافية للحواسّ تتشكل على أساسها أنماط التفكير لكل حضارة من الحضارات. فالحواسّ، في نهاية المطاف، هي التي تنجب المعنى. والكاتب يستثمر هنا ما تقدمّه اللغة الفرنسيّة من جناس تام بين لفظ "حاسّة" ولفظ "معنى" إذ يشار إلى كليهما بكلمة "sens".
يغوص الكاتب في لجج الحواسّ، ويبحر في قراءة الحضارات البدائية والمتطورة، القديمة والحديثة. ويرى ان الإنسان يتعامل مع حواسّه، أغلب الأحيان، على أساس أنها معطى بيولوجيّ ثابت، أحاديّ اللون، بخلاف ما عليه واقع الحواسّ، فهي تتعدد بتعدّد الشعوب وتتلوّن بألوان التجارب التي تعبرها هذه الشعوب والحضارات. ويعتبر الكاتب أن جهل الإنسان بالطبيعة الثقافية للحواس هو الذي أدى ماضيا إلى توليد العنصرية والتباغض بين الشعوب. ولا بد لإزالة التشنجات التي تعصف بالعالم في زمن العولمة هذا من أن نلجأ إلى دراسة الحواس دراسة أنتروبولوجيّة واجتماعيّة لنعرف أن مسألة اللمس والشمّ والنظر والسمع والذوق هي مسألة ثقافيّة نسبيّة لا تستدعي التفاخر والتفاضل، بل أن التعدد في طرائق استخدام الحواس غنى بشريّ عليه أن يساهم في توسيع آفاق النظر وتعميق معرفتنا بأسرار الحواسّ.
يتساءل الكاتب هل من الممكن أن نفقه روح الحضارات إذا أسقطنا من الاعتبار (رائحتها)، و(طعمها)، و(ملمسها) ؟ وهل يمكن لنا أن نحدّد هويّة حضارة ما ونحن لا نعرف أسلوبها في التعامل مع الحواس؟ إن الكاتب في أماكن كثيرة من مصنفه العميق والطريف يقارب الحواس كما يقارب علم اللغة الحديث تشكّل اللغات ودلالاتها. ففي فصل عن اللغة والحواس يرى الكاتب أن كل امّة تختار، على المستوى اللغوي، من الأصوات اللامحدودة التي يوفرها الجهاز الصوتي عددا معينا من الصوامت والصوائت لتشكيل أبجديتها اللغوية، فإنها تعتمد الطريقة نفسها عبر غربلة المنظورات والمشمومات والمسموعات والملموسات والمذوقات بغية تشكيل أبجدية النظر، والشمّ، والسمع، واللمس، والذوق. كل حضارة تختار مثلا من العدد الذي لا يحدّ من أنواع المآكل والمشارب أنواعاً وأصنافاً معينة تقيم منها أبجديتها الغذائية. ومن هنا مثلا فإنه كما يمكن أن نمايز بين اللغات عن طريق أبجديتها الصوتية يمكننا أن نمايز، وبأسلوب مشابه، بين الحضارات عن طريق أبجديتها الغذائية.
ويعتبر الكاتب انه من الطريف جدا الولوج إلى عالم الحواس الثري والمتنوع من الباب اللغويّ، فالاختلاف في استخدام الحواسّ تؤكده المفردات اللغوية لكل حضارة. ويلفت الكاتب إلى الصعوبة التي يواجهها المترجم وهو ينقل تعابير الحواس من لغة إلى لغة، ولا يجد أحيانا خلاصا من ورطته إلا بنقل الكلمة كما هي إلى اللغة المنقول إليها أو اللجوء إلى تكثير الصفات لاصطياد الدلالة الزئبقية. يشير الكاتب إلى أن مفردة " الشمّ" في قبيلة ألـ "ياكا" تعني أيضاً "الجماع"، حيث تعلو القيمة الشمّيّة قيمة الملامسة عند هذه القبيلة. ولا نكران في دور الغواية الذي تلعبه حاسة الشمّ في الحياة الجنسية لدى كافة الكائنات الحية، وهذا يعني في أي حال أن حاسة الشم في العلاقة الزوجية لدى هذه القبيلة ليس له المفهوم نفسه الذي تمتلكه حضارة أخرى لا تقوم بهذا التماهي بين حاسة الشم والعملية الجنسية. ويشير الكاتب إلى أن المفردات الشمّيّة لدى هذه القبيلة أغنى بكثير من المفردات التي توفرها اللغة الفرنسيّة مثلاً، محددا انه يتكلم على المفردات المألوفة المتداولة وليس على المفردات الاصطلاحية التي لا تدرج في رصيد مستعمل اللغة العاديّ. وفي اليابان تمّ استثمار حاسّة الشمّ في تنشيط العمال عن طريق بث أريج الليمون في المصانع لإزالة الإحساس بالإرهاق والتعب أو نشر أريج بعض الأزهار لزيادة القدرة على التركيز.كما يشير المؤلف إلى الدور الذي يمكن ان تلعبه الروائح في إزالة القلق والتوتر إذ أظهرت دراسة ميدانية ان توتر المريض يتقلص كثيرا في حال تعرض لشمّ رائحة معينة.كما أظهرت التجارب ان الميت سريريّاً يتفاعل مع الروائح ويروي الكاتب كيف أن عيني غائب في الكوما فاضتا بالدمع حين لامس أنفه رائحة ذات صلة بذكريات له حميمة.
والكاتب يعتبر أن اللغة تفيد إفادة جلّى في عملية تصنيف الحضارات وفقاً للحواسّ بناء على التغيير في عدد مفردات الحقول المعجميّة للحواس. ويعرض الكاتب لمسألة الطعوم، وتقسيمها، فما قد يدرج في حيّز المالح في حضارة ما قد يدرج في حضارة أخرى في حيّز المرّ، وكذلك الأمر في ما يخصّ عالم الألوان وهو عالم فاتن، فتن علماء اللغة والأنتروبولوجيا على السواء، وهذا دليل حسيّ على اختلاف في استخدام حاسة النظر، ففي اليابان مثلا يعتمد تقسيم الألوان تبعاً لكمود اللون أو سطوعه، ومن هنا فليس غريباً، في اليابان، أن يكون للونين اسم واحد رغم تباينهما اللونيّ على مستوى النظر لأنّهما متشابهان من ناحية السطوع أو الكمود. ويعتبر الكاتب أن الطفل حين يولد يكون مهيأ للتمييز بين كلّ الألوان كما يكون مهيأ لتعلّم أية لغة إلا انه بسبب تأثير المحيط الثقافي عليه فانه سرعان ما يفتقد هذه القدرة على التمييز بين الألوان تماما كما يفتقد الليونة الفطرية في التعامل مع كلّ الأصوات لصالح أصوات لغته. ويشير المؤلف إلى قبيلة "أشانتي" وطريقة تصنيفها للألوان، فالأسود هو كل لون غامق حتّى ولو كان أزرق أو أرجوانيا. والألوان الأساسية في أفريقيا هي الأحمر والأبيض والأسود، وفي "بوبونغا" في جنوب شرق آسيا: تستعمل لفظة واحدة هي "نْتيما" للدلالة على الأسود والأزرق على السواء. ولا ريب في ان الاختلاف في تقسيم الألوان ينتج حكما اختلافاً دالاّ في النظرة إلى الطبيعة الملونة. ويقول المؤلف إن كلّ الحضارات تستعمل مفردات الأسود والأبيض والأحمر، ولكن هل هذه التسميات تضمّ في جعبتها الألوان الأخرى نفسها؟ أليس اللون الصارخ في حضارة ما هو نفسه لون صامت في حضارة أخرى؟
ويشير إلى مفهوم "الغربة"، وهو شعور يمسّ حواسّ كل مغترب، يمسّ حاسة اللمس عنده، كما يمسّ حاسة الشمّ، ولعل الإحساس بالغربة يتبدى أكثر ما يتبدى مع حاسّة الذوق، حيث تتغير عادات لسانه الذوقية واللغوية معاً، وما من مغترب إلاّ ويشعر لسانه بحنين لاسع لمأكولات بلده، ومألوف الطعوم التي يفتقدها في مغتربه، ويشير المؤلف، خلال عرضه لحاسة الذوق، إلى مفهوم القرف الناتج عن التربية الغذائية أكثر مما هو ناتج عن الطبيعة الفطرية للإنسان. ويعتبر الكاتب أن القرف نظام رمزي دفاعيّ. ويحكي عن تجارب لانتروبولوجيين كثر حاولوا أن يأكلوا من مآكل للشعوب التي يدرسونها وهي تجارب بأغلبها مرّة المذاق. منها تجربة رائد الانتروبولوجيا البنيوية كلود ليفي استروس صاحب كتاب "النيئ والمطبوخ" الشهير عن ثقافة الشعوب الغذائية. ويتناول بالدراسة تعابير غذائية كثيرة تعدّت معناها الحرفيّ واكتسبت دلالات أو نكهات مجازية منها عبارة: "ليس عنده شاي" والتي تعني، في اللغة الصينية، " ليس عنده إحساس"، ومعروفة طقوس الشاي في الصين واليابان، وهي طقوس سيميائية وارفة الغنى.
ولا يتوقف الكاتب فقط عند هذه الأمور بل يدرس اثر استخدام الحواس على البنية الشخصية لدى الشعوب. فالأصمّ في إفريقيا لا يعاني المعاناة الذي يعانيها نظيره في المجتمعات الغربية بسبب طبيعة العلاقات الاجتماعية اللمسية في إفريقيا.الطفل الإفريقي الأصم لا يعيش مأساة العزلة، وينمو نموا طبيعياً والسبب في ذلك هو ان الطفل لا ينفصل عن ظهر أمه أو عن ذراعيها، فتقوم حاسة اللمس عبر الاحتكاك الجلدي المستمر وعبر التواصل مع أمه عن طريق ذبذبات جسدها نفسه مقام حاسّة السمع علماً أن المجتمعات الإفريقية شفاهية أي صوتية بخلاف المجتمعات الغربية التي تكثر فيها البدائل التصويرية والكتابية. والسبب هو أن الغرب كان ينظر إلى لغة الجسد، من إيماءات وإشارات وتلويحات وغيرها نظرة لا تخلو من دونية باعتبارها من قبيل الحشو الذي يبلبل عملية التواصل أكثر مما يسهلها. ويتناول الكاتب حكايات كثيرة عن معاناة الصمّ، في الغرب، وقمع أصابعهم قبل أن ينتبه مؤخراً إلى القدرة المذهلة التي تكتنزها الأبجدية الإيمائية.
ان الكاتب على امتداد صفحات الكتاب يحاول باقتدار علميّ ملحوظ إعادة الاعتبار للحواسّ التي نستخفّ أحيانا بها معتبرين أنها أغلال تعيق تجلّيات الروح في حين أنها أقرب إلى أن تكون أجنحة محلّقة. ألم تخرج رائعة مرسيل بروست "البحث عن الزمن الضائع" من مذاق فطيرة مادلين مغموسة في قدح شاي؟ وهل الإنجازات التكنولوجية الحديثة، في أيّ حال، غير امتدادات مجازيّة لحواسّ الإنسان التي لم تفرج بعد عن كلّ مكنوناتها؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق