ثمّة قول إفريقيّ عن احترام
ذاكرة الكبار في العمر، وهي ذاكرة تقوم مقام الأرشيف الحيّ والحارّ، يقول:"
وفاة شيخ كبير أشبه ما يكون باحتراق مكتبة"، وعليه فأفواه الشيوخ حكايات
وأحلام تغري الآذان. وقد لا يكون الانسان مبالغاً في الكلام إذا قال إنّ افريقيا
مهد الحكايات. أليس هذا ما يميل إليه علماء الانسان من خلال الحفريّات التي تقول
إنّ موطن الانسان الاوّل كان افريقيا؟
ولكننا، على صلتنا الحميمة
والجغرافية بافريقيا السوداء، لا نميل كثيراً الى الاهتمام بها أو حتّى بغيرها! (
جنوب السودان لا يخلو من عبرة!)، ويحضرني في هذه المناسبة رسالة الجاحظ ذات
العنوان الدالّ:" فخر السودان على البيضان" حيث أشاد فيها بمناقب
السودان. واعتبر الحكايات الافريقية جزءا من هذه المناقب، وهي حكايات فاتنة تكتسب مع الزمن سمة النبيذ المعتّق في جرار
التجربة الانسانية.
كنت أقرأ في كتاب :"
حكايات وأساطير إفريقيّة" المنشور في سلسلة "ابداعات عالمية"
الكويتية، وهو يتضمّن حكايات بديعة من القارة السمراء، فاستوقفتني حكاية بعنوان:" لقاء الضبع
والعنزة"، والعنوان حتى قبل الخوض في تفاصيله يكشف عن المعادلة الخاسرة بين
الطرفين، بين القويّ والضعيف، الغنيّ والفقير، الآكل والمأكول، الصادق والكذّاب.،
ولكن بعض اللقاءات تفوق التوقعات أو تخيّب ظنّ التوقعات، ولا تخلو خيبة الظنّ،
هنا، من بعض المتعة!
تقول الحكاية إنّ عنزة صغيرة
واسمها " بيا" كانت في طريق عودتها من زيارة عمتها المريضة ذات صباح،
واذ بها في احد منعطفات الطريق تفاجأ بمواجهة الضبع " بوكي"، حاولت
بفطرتها السليمة أن تفرّ، الاّ أن الضبع اعترض طريقها الضيقّ قائلاً : لن تستطيع
اقدامك المرتعبة الفرار يا عنزتي الشهية؟ سقطت في الفخّ، شعرت العنزة ان نهاية
حياتها الهشّة قريبة من فم الضبع، ولكن كلام الضبع أحيا الأمل في مسمعيها حين
قال:جاءك اليوم حظّ من باب السماء، فشهيتي للكلام اكثر من شهيتي للطعام، أشعر انني
احتاج الى الفضفضة والثرثرة والتسلية، لذا قررت أنْ أمنحك فرصة في النجاة من فكّي
شرط اخباري باربعة حقائق دامغة لا تقبل الشكّ. تعرفين يا عزيزتي أنّ الخداع لا
ينطلي علينا نحن معشر الضباع.
لم يستطع كلام الضبع طمأنة
العنزة الخائفة، ولكنّها شعرت أنّ كلامه يشبه الأمل الذي تمنحه القشّة للغريق،
فقالت له بلسان مذعور: حسناً، الحقيقة الأولى هي انك تناولت وجبة كبيرة ودسمة منذ
قليل. نعم، كلامك سليم، قال الضبع مندهشاً ومتفاجئاً من جوابها، ولكن كيف علمت
بالأمر ولم نلتق الاّ للتوّ؟ لعلّك كنت تتجسسّسين عليّ أيتها العنزة الماكرة، لا
والله ما تجسّست، ردّت العنزة المرعوبة، ولكني قلت بيني وبين نفسي: لو لم تكن قد
تناولت وجبة دسمة لما كان لديك فائض وقت للكلام معي، ولكنت الآن أشلاء في بطنك،
كلامك صحيح ايتها العنزة الذكية، قال
الضبع. هيا اذن هات الحقيقة الثانية، فقالت له العنزة: لو قلت لأهل القرية اني التقيتك وتحدّثت معك
لما صدّقني أحد، ولاتهمت في حال قلت الحقيقة بأنني أقوم بتلفيق الأخبار وحياكة
الأكاذيب. معك حقّ، قال الضبع، فمن يصدّق اني سمحت لك بالافلات من بطني الشره،
فأمعاؤنا ليست مخصّصة للأعمال الخيرية؟ والحقيقة الثالثة، قالت العنزة، لو كنت
اعرف اني سالتقي بك في الطريق لبقيت في البيت وأجلّت زيارة عمتي، وأرحت نفسي من
ملاقاتك، ولكني لا انجّمّ، ولا أضرب بالرمل، ولم أطّلع على علم الغيب، ضحك الضبع
من فلسفة العنزة الغيبيّة، ثم قال لها: إلى الحقيقة الرابعة، نظرت في عينيه وهي
تقول له: أعرف، أعرف تماماً انك لن تتركني رغم امتلاء بطنك. نظر الضبع إليها وهو
يلحس شفتيه بأطراف لسانه الشره بعد أن سال
لعابه، فكلامها أثار شهيته، وقال: إنها الحقيقة الأكثر صلابة من كلّ الحقائق
السابقة؟ يا عنزتي الشهيّة، يا لك من عنزة ذكية وشقية! فأنت تعرفين على ما يبدو
إنّ أبناء جنسي لا عهد لهم ولا ذمّة، ولا يفَوْن ابدا بأيّ وعد قطعوه. وراح يضحك
بملء شدقيه وهو يرى كيف ان العنزة انخدعت له، بحيث انه انقلب الى قفاه من الضحك،
فانتهزت العنزة هذه اللحظة واطلقت سيقانها النحيلة للريح حتى عبرت بسرعة البرْق
اسوار القرية قبل ان يستطيع الضبع اللحاق بها، ونجت بجلدها من الضبع الذي راح يلعن
الضحك الذي سمح للعنزة بالنجاة من بطنه .
لم تقل العنزة ما حدث لها
لأحد، ظلّ لقاؤها بالضبع جرحاً دفيناً يقضّ مضجع ذاكرتها المرعوبة، إذ خافت على
سمعتها من ألسنة العنزات، فمن سيصدّق حكايتها مع الضبع؟ وسيظنّ فيها الظنون وتتّهم
بالجنون.
ثمّة حقائق لا يقولها المرء
ليس لأنّها لا تقال ولكن لأنّ من يقولها يتّهم بالجنون أو بالكذب، وليس هناك أصعب
من أن يتّهم المرء بالكذب في اللحظة التي لا ينطق بها فمه بغير ما حدث معه وصار
دون زيادة أو نقصان.
حتّى الحقائق يبدو أنّها
تحبّ اللعب بأصحابها!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق