الثلاثاء، 1 ديسمبر 2015

طبيب نسائي في حديقة الحيوان

Stéphane Tarnier


الأفكار الجديدة هي نتاج إعادة الاستعمال أو إعادة التدوير.
الأفكار الجديدة عادة ما تستخدم الكلمات، فالكلمات قضاؤنا وقدرنا. وأغلب الكلمات التي نستخدمها هي كلمات عتيقة، مستعملة. وحتّى الجديد منها سبق لغيرنا أنْ استعمله، ولكنّ الكلمات العتيقة مرنة تتحوّل إلى موادّ أولية، موادّ خام، نستولد منها ما طاب لنا من روايات جديدة، وأشعار جديدة، وأفكار جديدة.
كلّ كلمات جبران خليل جبران، على سبيل المثال، أو نزار قباني، أو أحلام مستغانمي هي كلمات مستعملة. الفكرة الجديدة تشبه كرّ كنزة صوف قديمة وإعادة حياكتها، وقد تتحوّل بعد حياكتها الجديدة إلى "تلفيحة"، أو " بنطلون" بحيث لا يخطر ببال الناظر أن هذا البنطلون هو نفسه الكنزة السابقة.
الكون عجينة ليّنة ولا يختلف استثماره عن استثمار العجائن!
ما أقوله ، هنا، هو من وحي بيت شعر لعنترة ورد في فاتحة معلقته الجميلة:
هلْ غادرَ الشُّعراءُ منْ متردَّم   أم هلْ عرفتَ الدارَ بعدَ توهّمِ؟
وكلمة "المتردّم" تعني الأنقاض، ولكن أليس من هذه الأنقاض صاغ عنترة معلقّته  الخالدة؟ هل كانت ارتقت إلى مصافّ المعلّقات لولا تلك الجدّة التي رآها فيها النقّاد العرب القدامى؟ الكلمات كالأحجار القديمة التي كانت تنقل من مبنى بعد هدمه لتسخدم في بناء مبنى جديد.
وما قاله عنترة قاله غيره كثيرون، ومنهم كعب بن زهير في قصيدة ورد فيها البيت التالي:
ما أرانا نقولُ إلاّ رجيعاً   ومعاداً من قولنا مكروراً
اللغة تأخذك إلى ما وراء اللغة، إلى ما هو غير لغويّ، والأشياء غير اللغوية تقودك إلى عالم اللغة. إنها حركة دائمة كبندول الساعة بين ما هو لغويّ وما هو غير لغويّ.
وأمر غير لغويّ قادني الى البدء بفكرة لغوية. قرأت حكاية طبيب توليد فرنسي عاش في القرن التاسع عشر اسمه ستيفان تارنيه Stéphane Tarnier. كان هذا الطبيب يعمل في مستشفى باريسي لتوليد نساء المدينة الفقيرات، قرّر أن يأخذ إجازة من عمله لبرهة من الوقت، ولكن هذه الإجازة كانت صفحة جديدة في حياة المواليد الجدد. فلقد كان يقضي بعضا من وقت إجازته في الذهاب الى حديقة الحيوان القريبة من باريس، ويتجوّل على الحيوانات الغريبة من فيلة وزواحف، وصادف في الوقت الذي ذهب فيه وجود معرض لحواضن الصيصان. راح يتأمّل الصيصان التي تترنّح بعد خروجها من بيوضها ضمن حجرة الحاضنة الدافئة، فلمعت في ذهنه، وهو يتأمل الصيصان، فكرة غيّرت مصير المواليد، فطلب من المشرف على حواضن الصيصان وكان يدعى اوديل مارتان Odile Martin  التعاون معه، وذلك بغية بناء صندوق يمكن أن يؤدّي مهمّة مشابهة فيما يخصّ الأطفال الحديثي الولادة. كان معدّل موت الاطفال مرتفعا في اواخر القرن التاسع عشر حتى في مدينة تعتبر متطورة مثل باريس، فمن بين كل خمس اطفال كان طفل يموت قبل سنّ الحبو، وكانت الحالة أسوأ بكثير بالنسبة للأطفال الذين يولدون قبل وقتهم. أدرك تارنيه ان تنظيم الحرارة كان ضروريا للابقاء على الاطفال احياء. جرت تدفئة الاطفال الضعاف بواسطة قوارير ماء ساخن وضعت تحت الصناديق الخشبية، وشرع تارنيه في دراسة سريعة لخمسمائة طفل، وهزت النتائج الهيئة الطبية في باريس. كان 66 بالمائة من الأطفال المنخفضي الوزن يموتون بعد عدّة أسابيع من ولادتهم، بعد إدخال الصندوق الحاضن مات فقط 38 بالمائة، أي أمكن خفض معدّل الوفيات الخدّج بفضل معاملتهم معاملة الصيصان في حديقة الحيوان.

حاضنة من وحي حاضنة صيصان

الفكرة التي خطرت ببال تارنيه ليست جديدة، الجدّة هي في نقل الفكرة من مكان إلى آخر، من حديقة الحيوان الى مستشفيات التوليد. ومن فكرة تارنيه تطوّرت فكرة الحاضنة couveuse التي أنقذت آلاف المواليد الخدّج وغير الخدّج من الموت المحتوم في العالم.
الفكرة كما الصيصان التي رآها تارنيه في حديقة الحيوان تحتاج الى بيئة حاضنة أيضاً حتّى لا تموت قبل وقتها.
الحواضن الجديدة التي تصنع اليوم لا تؤدي الغرض منها كما يجب في كلّ مكان. وهذا ما لاحظهTimothy Prestero  وهو استاذ من معهد ماساسوسيتش للتكنولوجياMIT .

Timothy Prestero

كلّنا نذكر ذلك التسونامي الساحق الذي ضرب في العام 2004 المحيط الهندي وسبب الويلات لأندونيسيا. قدمت، في ذلك الوقت، إحدى منظمات الإغاثة الدولية ثماني حواضن إلى مستشفيات مدينة ميولابو الأندونيسية، ولكن في عام 2008 كانت كلّها قد تعطّلت بسبب شبكة الكهرباء المضطربة ورطوبة المناطق الاستوائية، ولقد بيّنت دراسات كثيرة ان 95 بالمائة من التقنيات الطبية العالية المستوى التي تقدم الى البلدان النامية تتعطّل خلال أوّل خمس سنوات من استعمالها.
راح بريستيرو يفكر في تلك الحواضن المعطلة ويفكر بمخرج، ولقد ساعدة في ذلك طبيب اسمه جوناتان روزن Jonathan Rosen، من بوسطن. لقد لاحظ ذلك الطبيب ان البلد يفتفر الى مكيّفات الهواء والحواسيب المحمولة والصحون اللاقطة، ولكنه لاحظ ان هذا البلد استطاع ان يبقي سيارة تويوتا الرباعية تعمل على الطريق مدّة أطول من المدّة التي عاشتها الحاضنات. وهنا قال الطبيب : لماذا لا نصنع حاضنات من قطع السيارات وتعيش كما تعيش السيّارات؟ أين وجه الشبه بين سيّارة وحاضنة طفل في مشفى توليد؟

استغرق تنفيذ فكرة الطبيب ثلاث سنوات وانتج الحاضنة الجديدة، وهي لا تختلف في ظاهرها عن أي حاضنة حديثة، ولكن تركيبها الداخليّ يشبه أحشاء السيارة، فقد وفّرت المصابيح الأماميّة الدفء المطلوب، ووفّرت مروحة لوحة قيادة السيارة ومرشّحها تهوئة نظيفة، ووفرت مصوتات الأبواب وسائل الإنذار، وجرت تغذية الحاضنة بالكهرباء من بطارية دراجة آلية بواسطة ولاّعة سجائر معدّلة.
لقد كان بناء الحاضنة الجديدة ملائما للبيئة النامية من ناحيتين: فقد استغلّت فيه قطع الغيار المتوفرة  في السوق المحلّي، كما استغلّت أيضا الخبرة المحلية في إصلاح السيارات، وكلاهما متوفّران، في البلدان النامية. كانت الحاضنة الجديدة المصنوعة من قطع غيار السيارات والدرّاجات النارية أشدّ نجاعة وأقدر على تحمّل العيش في بيئتها النامية من تلك الحواضن الفائقة الصنعة، وإصلاحها في حال عطل طارىء ميسور.
الخطّ البيانيّ للحواضن من حديقة الحيوان في باريس في القرن التاسع عشر إلى مستشفيات التوليد في أندونيسيا في القرن الحادي والعشرين هو خطّ بيانيّ لكثير من الأفكار التي لا تختلف عن الشطر الأوّل من مطلع معلّقة عنترة بن شدّاد.
 هل يختلف "متردّم" عنترة عن الحاضنة الأندونيسية في مستشفيات أندونيسيا.
الفكرة الجديدة قد لا تكون أكثر من نظرة جديدة إلى كومة من الأنقاض!
بلال عبد الهادي







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق