المقدِّمة
كان للشاعر عبد المعين الملوحي الفضل في ترشيحي للعمل الأكاديمي في جامعات الصين. وبناء على تزكية كريمة من هذا الأستاذ الفاضل تلقيت دعوة من السيد وانغ قوي فا، المستشار الثقافي في سفارة جمهورية الصين الشعبيّة الاشتراكيّة بدمشق. وبعد أكثر من لقاء حافل بالأسئلة والاستفسارات والأحاديث، فضلا عن إمعان النظر بالوثائق المطلوبة، جرى توقيع العقد بتاريخ 20/10/2000 لتدريس اللغة العربية في كلية اللغات بجامعة الدراسات الأجنبية في بكين. وقد تحدد موعد سفري إلى هناك، عبر اسطنبول في التاسع عشر من شهر فبراير/ شباط 2001. ولن أتحدث هنا عن مواقف الذل في الطوابير التي تنتظر الفرج والقبول أمام بوابات السفارات الأجنبية، بدءا من السفارة التركية في دمشق. ولا أملك هنا إلا أن أحيي سعادة سفير الصين في دمشق الذي زودني مشكورا بكتاب يسر لي موافقة تلك السفارة على دخول اسطنبول في طريق العبور (ترانزيت) إلى بكين.
انفضّ مجلس سهر الأصدقاء والأقربين الآتين لوداعي, وانصرف آخر شخص في الواحدة ليلاً. قال أخي: غداً سأذهب معك إلى مطار دمشق الدولي. قلت: لا داعي لذلك أبداً.. سهل عليّ أن أسافر بمفردي. غير أنّه أصرّ: لن أتركك تسافر وحيداً.. هذا أبسط الأشياء, لا بد أن أودّعك في المطار.
وفي ما بعد اكتشفت أنّه محقّ في ذلك. مريح جداً أن ترى وجهاً أليفاً قادراُ على إضفاء البهجة والطمأنينة عليك, وأنت تودّع أجواء بلادك. كنت قد تعوّدت في سفراتي السابقة أن أودّع المطارات وحيداً, وأن أدخلها وحيداً، غريباً تائهاً قلقا، وحزيناً كنورس فقد صفاء بحره وأمان شطّه، وكصفصافة اقتُلِعت عنوة من ضفّة نهرها.. لا أحد يعرفني, ولا أعرف أحداً.. متفرّداً في اغترابي وترحالي, لا يهمني إن استقبلني أحد أو ودّعني أحد، فلا أرض لي ولا بحر، لا مدينة ولا زوجة ولا خليلة, لا أطيان ولا عقارات, ولا وطن يؤويني. كنت أشعر أني مقتَلَع من كل شيء، وأنّ غربة عارمة نازفة تفتك في وجداني ووجودي كله, ماضي وحاضري ومستقبلي. كنت مسكوناً بالغربة واليأس من كل شيء. وتراءى لي في مرّات كثيرة, وأنا أنتظر في المطارات، وعلى حدود الدول العربيّة أنّ ما يربطني بهذا العالم هو حذائي فقط.
مغادرة اسطنبول
من مطار اسطنبول ركبت طائرة (جامبو) وكانت نصف مقاعدها خاوية, وربّما أكثر, ففي هذه الفترة من السنة يقلّ عدد المسافرين, بسبب البرد. امتدت الرحلة إحدى عشرة ساعة من الطيران المباشر حتّى وصلت إلى بكين. وعلى الرغم من أني ركبت طائرات عديدة في حياتي، إلاّ أنّ الإجراءات في هذه المرّة كانت مختلفة, فقد وزّعت علينا المضيفة جوارب حمراء وزرقاء سميكة، وطلبت منّا أن نلبسها وننزع أحذيتنا عندما نمشي داخل الطائرة، بالإضافة إلى زجاجات عطر, وسماعات لمن يريد أن يستمع إلى برامج الإذاعة أو التلفزيون أو يكتفي بالموسيقى. ومن باب الإنصاف أقول: لقد كانت المضيفات التركيّات في غاية الأناقة والأدب والتهذيب, فقد قدمنّ خلال هذه الرحلة ثلاث وجبات، وكنّ في كلّ نصف ساعة يدفعن بعرباتهنّ الغاصّة بأنواع الشراب, ويسألننا: هل تريدون شيئاً آخر؟ سألني جاري مهندس الكومبيوتر السيد (تاو) ماذا تشرب؟ قلت: عصير برتقال. قال: أقترح عليك شراب التفاح، فهذا أفضل صحياً في مثل هذه الرحلات الطويلة, فهو يخفّف الصداع والغثيان. وأكّد: أنّه خلال سفراته الطويلة لا يشرب إلاّ عصير التفاح لأنّ له شأواً كبيراً كما يرى خبراء الطبّ الصيني. وكلمّا دنت منا المضيفة بابتسامتها الشفيفة الهامسة طلبنا عصير التفاح. وكانت بأريحية واضحة تؤكّد: هل تريدون شيئا آخر من المشروبات، إلاّ أنني لم أطلب إلاّ عصير التفاح طوال الرحلة احتراماً لما يراه خبراء الطبّ الصيني الذين هم على درجة عالية من المعرفة والأخلاق العالية, كما اكتشفت في ما بعد في بكين. ويبدو أنّ المشرفين على الرحلة أحسّوا بأن زمن الطيران طويل جداً, فقرروا أن يبددوا سأم الركاب وكآبتهم فاختاروا عروضاً تلفزيونيّة متنوّعة, وكانوا ذوّاقين في ما اختاروه, فقد عرضوا سيّدات الرقص التركي, وهنّ يهتززن اهتزازاً فاضحا, وفيه كثير من الإثارة الجنسية, وكن شبه عاريات. وسألني جاري مستغرباً: أليست تركيّة بلاداً إسلاميّة؟ قلت: بلى. قال: إذاً، كيف يسمحون بكلّ هذا العري؟ وسألته: هل هي المرّة الأولى التي تركب فيها طائرة تركيّة؟ قال: نعم, وهذه هي أول مرّة أزور فيها تركية أيضاً.عندنا في الطائرات الصينية لا يوجد مثل هذا الرقص العاري. وتساءل: كيف هي طائراتكم؟ قلت: نحن تقاة بررة ديّنون في ظاهر الأمر, ومعربدون وسكارى عندما نخلو لشياطيننا, ولذا فإنّ طائرات عالمنا العربي لا تسمعنا إلاّ القرآن الكريم, وإصحاحات الإنجيل, ومزامير داود!
ويبدو أنّ الأتراك المعاصرين لم تغب بعد عن مخيّلاتهم حظايا سلاطين الدولة العثمانيّة, وقصور الحريم فيها، وما تغصّ به من مفاتن الرقيق الأبيض وألوان اللهو والترف.
في صفّ المقعد المجاور لمقعدنا كانت تجلس شابة شقراء حسناء، وقد بدت في أحلى زينتها. كانت وحيدة, تكرع زجاجات البيرة بنهم واضح... ابتسمت وحيّتنا, وكانت الأقرب إلى المهندس تاو, فدار حديث بينهما: عرّفت بنفسها, فهي أمريكيّة من ولاية أريزونا، فقدّم السيد تاو نفسه, وقدّمني لها. دعتنا للجلوس بجوارها. وبدا لي أن الناس الذين يسافرون كثيراً يظلّون دائما مسكونين بالحنين, والرغبة في معرفة الآخر, والحديث معه, واكتشافه أو استنفار حسّه الإنساني, فكل غريب للغريب نسيب - كما يقول الشاعر. إحدى عشرة ساعة من الطيران ليست قليلة, وكان على هذه الشابة الغريبة مثلي أن تبددها بالحديث أو بالشراب. قال المهندس تاو: تعال معي لنستمع إليها. اعتذرت, فلا رغبة لي بالقيام من مقعدي. وعندما سألني لماذا؟ قلت: أنا مرهق، وليس لي طاقة على الاستماع إلاّ إلى الموسيقى. ومازحاً أضفت: أنا أخاف أمريكا بكلّ ما فيها من رجال ونساء جميلات, وجريمة وعنف وسلاح وغزو وبطش واعتداء, ولا رغبة لي بالتعرف على هذه الأمريكيّة، لا من قريب ولا من بعيد. وفي قرارة نفسي كنت أعرف أني صادق في ما قلته، لأني فعلاً لا أحب أمريكا, لأنّها تمثّل بالنسبة لي الشرّ الأعظم, أو الشيطان الأكبر الذي لا يستريح ولا يدع أحداً يستريح ويعيش بأمان وطمأنينة، غير أني عندما وصلت إلى بكين اكتشفت أنّ هناك أساتذة أمريكيين يعملون معي في الجامعة, على قدر كبير من الأخلاق والثقافة والتهذيب والمودة, وهم يعادون السياسة الخارجيّة لأمريكا، ويدينونها, ويتظاهرون ضدّها في الشوارع الصينيّة.
قصة الحسناء
بعد حوالي ساعة ونصف الساعة عاد السيد تاو إلى مقعده بجواري، وحدّثني ببعض ما جرى بينهما، فهي قادمة إلى بكين للسياحة, غير أنّها ترغب في أن تجد عملاً هناك في إحدى الشركات الأجنبية أو الصينية التي تتعامل باللغة الإنكليزية، أو في إحدى المدارس الثانويّة التي تدرّس اللغة الإنكليزيّة. وطلبت منه أن يحكي لها عن بكين، وأنّ يعرّفها ببعض أصدقائه في بكين, فأكّد لها أنه من مدينة (نانجين) وليس له معارف في بكين. عندها ذكر لها: إنّ هذا السوري سيعمل مدرساً في جامعة بكين. وبعد قليل تركت مقعدها وانتقلت لتجلس بجوارنا. وبأدب سألتني عن عملي وعن اهتماماتي, وماذا سأفعل في الصين, وكم سأبقى هناك, وفي أي الأحياء سأعيش, وفي أي الكليات سأعمل، وهل يمكننا أن نلتقي في بكين؟ وأنّها ستكون سعيدة لو التقينا ثانية في بكين. وطلبت مني أن أعطيها رقماً هاتفياً لتتصل بي. ولأني لم أكن أعرف أيّ رقم هاتفي في الصين, ولا أعرف في أي الأحياء سأسكن, اعتذرت وقلت: ما أعرفه فقط أني سأعمل في جامعة بكين, وفي كلية الدراسات الشرقيّة، وفي قسم اللغة العربية. وقالت مؤكدّة: إنني سأزورك إلى هذه الكلية, وأسأل عنك هناك. كنت أعتقد جازماً أني سأعمل في جامعة بكين, وبدا لي أنه من غير المعقول أن يكون في بكين إلاّ جامعة واحدة تدرّس اللغة العربية. وفي ما بعد اكتشفت أنّ الجامعة التي أخذوني إليها ليست جامعة بكين, بل هي جامعة الدراسات الأجنبية التي تبعد عن جامعة بكين أكثر من ساعة بسيارة (الأوتوبيس). وكان طبيعياً ألاّ ألتقي بهذه الشابة ثانية طوال إقامتي في تلك البلاد.
صحبة طيبة
لولا تعرفي بالسيد تاو تشياوفينغ ( Tao Xiaofeng ) في فندق إيريزن
(ERESIN HOTEL) ذي النجوم الخمسة في اسطنبول ( الشطر الأوروبي)، لكانت هذه الساعات الثقيلة من مطار اسطنبول إلى مطار بكين قاسية جداً، فقد كان الرجل ودودا مهذباً. غير أني كنت أشعر قلقاً غامضاً في بعض الأحيان، فكيف سأعرف دهاليز مطار بكين وممرّاته, وكيف سأعرف الشخص الذي سيستقبلني. وتراءى لي أنّه ربما لن يكون هناك أحد في استقبالي، فكيف سأعرف الجامعة، وكيف سأنتقل من المطار إلى العاصمة، وكيف سأجد الفندق؟ وأبديت هذا القلق للسيد تاو عندما سألني عن سبب صمتي. وبهدوء وثقة أكّد: لا داعي لأن تقلق أبداً, فلن تجد أي صعوبات، سواء استقبلوك أم لم يستقبلوك.. سنخرج من المطار معاً، ونأخذ سيارة أجرة، وسأذهب معك لأحجز لك في أحد الفنادق المجاورة لجامعة بكين, وهناك من السهل عليك أن تذهب إلى الجامعة, وتسأل عن كلية الدراسات الشرقيّة.
بدا لي موقف السيد تاو كريماً ونبيلاً, واقتراحه رائعاً وحكيماً. شكرته من أعماقي على ذلك، وغاب تسعون بالمائة من قلقي واضطرابي، فعندما أصل إلى الفندق تنتهي مشكلتي، ومن السهل عليّ أن أصل إلى الجامعة. فقد كنت في سفراتي السابقة أصل إلى مدن لا أعرف أحداً فيها, وأركب طائرات لا أعرف أحداً من ركابها, وعندما أهبط أتوجّه بمفردي إلى وسط العاصمة أو المدينة التي أقصدها. أركب سيارة أجرة وأطلب من سائقها أن يأخذني إلى فندق متواضع بسيط. وبعد أسبوع من إقامتي في هذا الفندق أو ذاك, أكون قد عرفت أهمّ شوارع المدينة الرئيسة وأهم مطاعمها ومقاهيها ومكتباتها, وأكون قد اتخذت أصحاباً من عمال المقاهي والفنادق والمطاعم البسطاء، أسألهم وأستشيرهم. وبعد أقل من شهر أكون قد عرفت كل المقاهي التي يجلس فيها المثقّفون ليكتبوا ويثرثروا ويقرأوا, وأكون قد اتخذت منهم أصدقاء وخلاناً لا تمحوهم ذاكرتي المتعبة أبداً, المقهورة همّاً وحزناً واغتراباً.
بعد إحدى عشرة ساعة أعلن الطيار أنّه فوق مدينة بكين, وأنّ الساعة تشير إلى العاشرة صباحاً بتوقيت العاصمة، وأخذنا نربط أحزمة الأمان استعداداً للهبوط. ولا أنكر أنّ أسى شفيفاً هبط عليّ، وإحساسا بالقلق عاد ليحيطني. توقفت الطائرة.. هبطنا, ووقفت المضيفات التركيات المليئات رشاقة وجمالا على باب الطائرة يودعننا بابتساماتهنّ العذبة, ويتمنين لنا إقامة طيبة في بكين, ويسلمن لكل واحد منا كتيباً صغيرا يعرّف بموقع كل ما هو تركي في الصين, من شركة الطيران ومكابتها إلى السفارة إلى القنصليات إلى المطاعم إلى المحلاّت التجارية. وما إن أصبحت على أرض المطار حتى أحسست ببرد شديد نفذ إلى أعماقي, فأخرجت شالاً صوفياً كان قد أهداه لي صديقي الشاعر جابر خليل.
مشيت والسيد تاو متجاورين, وكان علينا أن نقطع مسافة على الأقدام، بدت لي طويلة جدا بالمقارنة مع تلك التي كنت أقطعها في مطارات العالم الأخرى, وبدا لي مطار بكين كبيراً وشاسعاً جداً، وأنيقاً ومزخرفاً, ومزيّناً بالملصقات والصور الحمراء، وبدا لي الركاب الصينيون وكأنهم يقفزون سراعاً, وهم يقطعون أروقة المطار ودهاليزه, وتأكّدت أنه مستحيل عليّ أن أستطيع اللحاق بهم, فقد كانوا يمشون وكأنهم يركضون.. لقد سبقوني جميعاً, وبقي بيني وبينهم مسافة طويلة, وحده السيد تاو كان بجواري. وقال: لا تقلق, أنا أعرف جميع اتجاهات هذه الممرات, وكنا آخر شخصين يصلان إلى موظف التأشيرات، ولم نجد أحداً من زملائنا ركاب الطائرة, فقد كانوا ختموا جوازات سفرهم, وخرجوا يستلمون حقائبهم.
المشبوه الوحيد!
تقدّم تاو بجواز سفره إلى الموظف، وسرعان ما ختمه وخرج. ومن وراء الحاجز الحديدي وقف ينتظرني. قدّمت جواز سفري إلى الموظف الذي كان عابساً متجهماً، غير أنّ عبوسه وتجهمّه لم يعن لي شيئاً, ولم يؤذني في شيء، فقد تعوّدت أن أشاهد هذا الوجه العابس في جميع مطارات العالم العربي التي دخلتها. قلّب جواز السفر, وتأملني بجمود قسمات وجهه, وبدأ يمطرني بالأسئلة. سألني عن مهنتي. قلت: مدرس في الجامعة, وسأعمل في جامعة بكين. قال: لكنّ جواز سفرك لا يثبت أنك مدرس, فأنت كاتب كما هو مدوّن في حقل المهنة. قلت: نعم. والكاتب يستطيع أن يعمل مدرساً أيضاً. وأخرجت له بطاقة اتحاد الكتاب العرب، فأخذ يقرأ الصفحة الإنكليزية فيها, ويقارنها بصفحات جواز السفر. ومن خلال هذا التحقيق خفت أن يتركني السيد تاو، ويخرج, فقد كنت الشخص الوحيد الذي يقف أمام موظف التأشيرات، وكانت كل الكوى المجاورة التي تعوّد موظفو التأشيرات أن يجلسوا وراءها خالية تماماً، وكانت الصالة الكبيرة جدا التي تضمّ هذه الكوى خاوية تماما, وحدي وهذا الموظف، ودهشت كيف يكون مطار أكبر دولة في العالم خالياً تماماً من الناس, واكتشفت في ما بعد أن هذه الصالة الكبيرة مخصصة لاستقبال ركاب طائرة واحدة فقط من بين عشرات الطائرات الأخرى القادمة من أصقاع العالم. أشرت إلى السيد تاو أن ينتظرني, فابتسم وهزّ برأسه.
أخيراً اقتنع الموظف بصحة ما أقوله, فأوقف سيل أسئلته, وختم الجواز وقال وهو لا يزال متجهماً: أتمنى لك إقامة طيبة في بكين. خرجت واعتذرت إلى السيد تاو عن تأخري. وقال: لقد قلقت لتأخرك.. بدا لي أنهم لن يسمحوا لك بالدخول.
و كان علينا أن نقطع مسافة هي الأخرى بدت طويلة، حتى نصل إلى الأمكنة التي نستلم منها حقائبنا, غير أني أحسست بنوع من الطمأنينة ونحن نقطع المسافة. وكنت أراقب الختم الأحمر الذي ختمه الشرطي على تأشيرة الدخول, وقلت للسيد تاو: هل يجب أن نقدم جوازات سفرنا لرجال شرطة آخرين. قال: لا. لقد انتهت إجراءات الدخول.
كانت حقيبتانا هما الوحيدتان اللتان تدوران على شريط مطاطي يدور بشكل بيضوي, فجميع الركاب كانوا قد خرجوا حاملين حقائبهم إلى بوابة المطار الخارجيّة. توقعت أن رجال الجمارك سيقولون افتح حقيبتك لنفتشها, كما في جميع مطارات العالم العربي، وأخرجت مفتاحاً، وفتحت قفلها استعدادا لفتحها أمامهم. وسألني السيد تاو: ماذا تفعل؟. وأوضحت له الأمر. غير أنّه أكّد أنّ جميع الإجراءات قد انتهت الآن. استغربت مدهوشا: ألاّ يريدون مشاهدة ما في الحقائب؟ قال: لقد شاهدوه من خلال شاشات كاميرات المراقبة, ومن خلال الكومبيوتر، حينما نقلوا هذه الحقائب من الطائرة إلى هنا. سحبت حقيبتي التي كانت منتفخة بالكتب والمراجع الأكاديمية التي توقعت أنّها ستخدمني في عملي، وطلب مني أن يساعدني على سحبها، لأن حقيبته كانت صغيرة وخفيفة. وعندما أكّدت أن الأمر سهل عليّ قال: إذا هات حقيبة يدك.
وجاء الفرج
وقبل أن أصل إلى الحاجز الذي يقف وراءه أقرباء المسافرين والمستقبلون لهم, أخذت أدقق جيدا في جموع الناس, وسرعان ما شاهدت شخصاً يرفع ورقة بيضاء كبيرة كُتِب عليها: أهلا بالدكتور محمد عبد الرحمن يونس. نظرت إليه فسرعان ما رفع لي يده ملوّحاً. وهنا هبطت نشوة من الطمأنينة والسكينة على روحي، وسرعان ما تبدد قلقي ونسيت تماماً كل الصعوبات التي اعترضتني، وآذتني في مطار اسطنبول الدولي حين دخولي إليه وخروجي منه. قلت لتاو: إنّهم ينتظرونني، وها هو اسمي مكتوب على تلك الورقة. وقال: أنا سعيد لذلك, وأنت لست بحاجتي الآن. وما إن خرجت من بوابة الحاجز التي فتحها شرطي الحراسة حتى أسرع الشاب الذي كان قد رفع الورقة البيضاء, وقبل أن يسلم عليّ أخذ يسحب حقيبتي الكبيرة. وابتسم لي شخص آخر مرحبا وسلّم عليّ بحرارة مهنئاً بالسلامة، وقدّم لي نفسه: أنا الدكتور بسام شوي تشينغ قوه. وتقدّم الشاب الذي سحب الحقيبة، وسلّم عليّ وقال: أنا المعيد إحسان. وكان فرحي عارماً. وقلت للدكتور بسام الذي كان يبتسم لي قبل أن أصل: كيف عرفتني؟ قال: من شكلك، فأنت العربي الوحيد الذي أشاهده من بين جميع القادمين, فأنا أراقبهم واحدا واحداً. وعرفتهم بالسيد تاو، وكيف التقينا في اسطنبول وكيف رافقني من باب الطائرة. شكرت السيد تاو، وأعربت له عن سعادتي الكبيرة بمعرفته، فتمنى لي إقامة طيبة في بكين، وأخرج بطاقة وقدّمها قائلا: أرجو أن تكلمني على أرقام هواتفي عندما تستقرّ في بكين. ثم ودّعني وسافر إلى نانجين.
أسرع المعيد إحسان وحمل حقيبتي إلى سيارة الأجرة، فخجلت وقلت: لا يا أخي أنا الذي أحملها, غير أنّه أصرّ.
في سيارة التاكسي أخذ الدكتور بسام يرحب بي متمنيّاً لي إقامة سعيدة في بكين, وأكّد لي سعادته بقدومي، وقال: اعتبرني صديقاً لك هنا, ولا تقلق من الغربة. ونقلت له تحيات المستشار الثقافي وانغ، وسلّمته الرسالة التي كان أعطانيها وهو يودّعني في مطار دمشق. وبدأ الدكتور بسام يسألني عن سورية وعن دمشق، وعن الثقافة والكتب, وعن الأحوال السياسية, فهو يعرف دمشق جيداً لأنه كان يعمل دبلوماسياً في سفارة بلاده بدمشق, ولسنوات عديدة. ولا أنكر أني كنت شارداً عن بعض أسئلته, فقد كنت مستمتعاً أراقب هذا الاخضرار الساحر البديع الذي يصطفّ بانسجام وتناسق مدهش على جانبي أوتستراد بكين.. أشجار خضراء شامخة كانت على طول الطرق, وسرعان ما جاشت في نفسي شهوة قيادة السيارات, وكنت أعتبر نفسي سائقاً ماهراً حيث قدت سيارات عديدة آلاف الكيلومترات على طرقات أوروبا والعالم العربي، وبدا لي أنّ قيادة السيارة ستكون أكثر متعة وراحة على هذا الأوتستراد، وبين هذه الغابات الساحرة, وتمنيت أن أستطيع يوما ما أن أقود سيارة على هذا الأوتستراد, لكن أمنيتي ما تحققت في ما بعد, لأني لو بقيت أعمل في بكين عشرين سنة فإنني لن أستطيع شراء سيارة.
دخول بكين
ما إن أشرفنا على أبواب المدينة حتى قال الدكتور بسام: هذه مدينة بكين الواسعة ذات الثلاثين مليونا ونيف, أكبر مدن العالم بعد نيويورك وطوكيو, ونحن الآن ذاهبون إلى الدائرة الثالثة التي تقع في قلب بكين حيث توجد جامعتنا. قلت: وهل جامعة بكين التي نقصدها كبيرة؟ قال: لن نذهب إلى جامعة بكين, وإنّما إلى جامعة الدراسات الأجنبية في بكين، الجامعة التي ستعمل بها وهي أحدث من جامعة بكين وأكثر جمالاً منها. وكلية اللغة العربيّة فيها أكبر بكثير من قسم اللغة العربية بجامعة بكين.
وصلنا إلى حيّ جميل مليء بالأشجار والورود. توقفت السيارة أمام باب الحي, تقدّم شرطي, وسأل الدكتور بسام بلغة صينية لا أفهم منها حرفاً واحدا. فأخرج قطعة نقدية وأعطاها للشرطي, ففتح الشرطي الباب الحديدي، وعلمت أنّها رسم دخول السيارة, فكل سيارة تريد الدخول إلى الحيّ يجب أن تدفع رسم دخول. قال الدكتور بسام: هذا هو الحيّ الغربي من الجامعة. وبعد دقائق قليلة توقفت السيارة أمام مبنى جميل، تحيطه الأشجار من جميع جهاته، وهو مكون من أربعة طوابق, وقال: تفضّل هنا مبنى الخبراء الذي ستعيش فيه. حمل المعيد السيد إحسان حقيبتي ودخلنا. كان في بهو المبنى أربع سيدات يجلسن وراء حاجز خشبي, فبادرن إلى تحية الدكتور بسام وهززن رؤوسهن لي, فرددت التحية باللغة الإنكليزية. قدّمت أكبرهن سناً مفتاحا للدكتور بسام. ومشينا في ممر طويل إلى أن وصلنا إلى باب منزل في الطابق الأرضي. فتح الدكتور بسام باب المنزل, وأدخل السيد إحسان الحقيببة، ودخلنا. كان على طاولة السفرة مجموعة كبيرة من الفواكه المتنوعة, وقال الدكتور بسام: لقد جلبتها لك صباح هذا اليوم. هذه هدية مني. وقال: هيّا تفضل معي إلى المطعم، فهناك ينتظرك بعض أساتذة الكلية. وهم يريدون التعرف بك.
قال الدكتور بسام: غدا وبعده تأخذ استراحة من عناء السفر, وسأمرّ عليك العاشرة صباحاً، وأصحبك في جولة, وأدلّك على طريق الجامعة، وأعرّفك بكليتنا... كنت متعبا وأشعر بشيء من الدوار، وكان لا بد أن أستريح الليلة بعد هذه الرحلة الشاقة. وسرعان ما طار بي ملاك النوم إلى عالمه السندسي الوديع، لكنه نوم متقطع يمتزج دفؤه المريح بما تركته الطائرة في رأسي من تموجات وأصداء.
يونيو/حزيران 2004
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق