قد لا يصدّق المرء أحياناً ما تراه عيناه، يشكّ بعافيتهما، يكذّبهما لا لأنهما تلعبان به، ولكن لأنّ ثمّة من يلعب، من وراء ظهره، بعينيه وهو لا يدري! الخداع موجود من يوم أن وجد البشر على سطح الأرض، لا تنجو حاسّة من مكر الخداع الذي يتقن لعبة السّراب. وهنا سأتناول حكاية قرأتها في كتابين، الأوّل كتاب عربيّ موسوم بـ" ثمرات الأوراق" وهو لابن حجّة الحمويّ، والثاني مترجم عن اللغة الفارسيّة هو كتاب "المثنوي" ألّفه الصوفيّ الفذّ جلال الدين الروميّ. ثمّة اختلاف طفيف في بعض التفاصيل بينهما ولكنّه لا يغيّر كثيراً من جوهر الحكاية. ما شجّعني على تناولها، هنا، هو ورود نصّها في أحد أهمّ كتب التصوّف الإسلاميّة. وكان أهل التصوّف يعشقون سرْد الحكايات ويتعاملون معها كما يتعامل زاهد مع حبّات سبحته!
أحبّ الإشارة، بدءاً، إلى أنّ أسلافنا الكبار في الحضارة الإسلامية كانوا يملكون جرأة في تناول الحكايات والأحاديث لا نملكها في زماننا هذا. فخذ "رسائل الجاحظ"، مثلاً، أو كتابه "البيان والتبيين" تجد طرائف " من تحت الزنّار" كما يقال، وكان يدرجها في صلب مواضيعه الجادّة حتى يستعيد القارىء نشاطه، وانظر إلى أبي حيّان التوحيديّ الملقّب بـ "أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء" تكتشف أنّ كتبه، ومنها على سبيل المثال "البصائر والذخائر"، لا تخلو من الحكايات الحمراء الصاخبة! لم تكن الجرأة في تناول المواضيع الحسّاسة والمكشوفة وقْفاً على رجالات الأدب بل التفت إلى تناولها رجالات الدين في ذلك الزمان العربيّ الزاهر، وانظر ماذا قال الإمام جلال الدين السيوطي وهم متمّم "تفسير الجلالين" في كتابه الطريف في بابه "رشْف الزلال من السّحر الحلال".
أنقل الحكاية، كما وردت في كتاب "المثنويّ" على أمل أن يقرأها القارىء بعينَيْ جلال الدين الروميّ أي أن لا يكتفي بظاهر الحكاية، وكان كثير من القدامى ينظرون إلى الحكاية كما لو أنها حبّة جوز لا بدّ من كسر قشرتها للوصول إلى لبّها. فالحكاية، من منظور جلال الدين كما كانت من منظور ابن المقفّع، قشرة لا أكثر تحمي المعنى من التلف.
والهزل عند جلال الدين الروميّ ليس هزْلاً إذْ يقول: "إنَّ كلَّ جدٍّ هزْلٌ عند الهازلين، وكلّ هزْل جدّ عند العاقلين". وعليه فإنّ ردّ فعل القارىء على حكاية جلال الدين الروميّ يحدّد، بشكل من الأشكال، هويّة القارىء.
نعرف أنّ الخيانة الزوجيّة موجودة في كلّ المجتمعات، والمجتمع الذي يدّعي خلّوه من هذه الرذيلة فإنّما يفرّ من رذيلة الزنى ليسقط في رذيلة الكذب. يستحيل وجود مجتمع كامل النزاهة، هي سنّة الدنيا، قد تكون الخيانة بمبادرة من الرجل وقد تكون بمبادرة من المرأة، ولن أخوض في أسباب الخيانات وهي متعددة بتعدّد أسباب الموت. تروي الحكاية أنّ امرأة تنتهز غياب زوجها لتمارس خيانتها، ولكن ذات يوم، عنّ ببال عشيقها رغبة غريبة، قال لها:" أريد أن أكون وإيّاك في مخدع الخيانة أمام ناظري زوجك من غير أن نثير ريبته!". هل هي مجّرد مغامرة نزقة من الرجل؟ هل هو اختبار رغبة الخائنة المحمومة؟ لعلّ العشيق قالها من قبيل الدعابة إذ من المعروف عن الخائن أنّه لا يختلف عن اللصّ من حيث الجبن. إلاّ أنّ المرأة أخذت رغبته على محمل الجدّ ولم تظهر أيّ استغراب من طلبه أو ذرّة تردّد في تحقيق حلمه الأرعن بل على العكس أظهرت ميلاً إلى إهدائه هذه المتعة السوريالية.
حين عاد زوجها الى البيت، أظهرت له الدلال الفائق والغنج الفائض، ثمّ طلبت منه طلباً لم يعتد سماعه منها. كانت امام منزلهما شجرة إجّاص، فقالت له:" إنّي اشتهي، يا حبيبي، الصعود الى الشجرة لقطف الثمار". خاف الرجل على زوجته من السقوط، وحاول ثنيها عن رغبتها ولكنها أصرّت متذرعة بألف رغبة ورغبة، فاستكان الرجل لكلام زوجته. صعدت المرأة، والزوج يرمقها من نافذة البيت وهو يمسك قلبه بيديه خوفاً على شريكة عمره من أن تغدر بها أغصان الشجرة، ولكن ما إن وصلت الى أعلى الشجرة حتى بدأت اللعنات تتدفّق من شفتيها كالسيل وهي تحملق في زوجها مصعوقة من هول ما تراه عيناها! وقالت له بصوت يفجّره المشهد:" ايها المأبون المنبوذ.. من ذلك اللوطيّ الذي يواقعك؟!( أشير إلى أنّ الحكاية في "ثمرات الأوراق" لا تتناول العلاقة المثلية) وقد رقدتَ أنت تحته كالمرأة.. أكنت، في الأصل، مخنثاً؟
قال الزوج: "ماذا تقولين أيتها المرأة؟ من أين تأتين بهذه الخرافات والترّهات؟ لعلّ دواراً أصاب رأسك، إذ ليس هنا إلاّ أنا". تابعت المرأة: "ومن هو صاحب القلنسوة الحمراء إذن الذي ينام فوق ظهرك؟". قال الزوج: "أيتها المرأة، هيا اهبطي من فوق الشجرة فلقد دار رأسك فخرّفت تخريفاً شديداً".
وعندما هبطت المرأة صعد الرجل ليعرف سرّ الشجرة فأخذت المرأة ذلك العشيق في أحضانها، فناداها الزوج:" ايتها البغيّ، من هذا الذي اعتلاك وكأنه القرد؟ فقالت المرأة:" لا، ليس هنا غيري. انتبه، فقد دارت رأسك ولا تخرّف".
كرّر الرجل ذلك الكلام على المرأة، وهي بدورها راحت تحيل كلامه إلى التخيّلات قائلة له: "انتبه، إنّ هذا من أوهام شجرة الإجّاص. فأنا حين كنت فوق الشجرة رأيتك منحرفاً أيضاً أيّها الديّوث. هيا اهبط حتى ترى بأمّ عينيك أنّه لا شيء مما ترى يحدث، وإنّ كلّ هذه الخيالات من شجرة الإجّاص". هبط الرجل من فوق الشجرة الملعونة التي لعبت بعينيه وعينَي زوجته، كما اعتقد، بينما كانت المرأة في غاية الزهْو والسعادة لأنّها حقّقت لعشيقها أمنيته الجريئة.
أنهي حكاية جلال الدين الروميّ بقوله الذي يشكّل مفتاحاً لقراءة الحكاية وهو :" إنّ الهزل تعليم فاستمع اليه بجدّ، حتى لا تصبح عاكفاً على ظاهر هزله"، فتكون كمن يأكل القشْر ويرمي باللباب!
رائع أستاذنا
ردحذفدام مدادك :)