في بقعة شبه
منسية من جبال البيرينيه تقع إمارة صغيرة اسما "أندورا" تجمع بين
الحضارتين الفرنسية والاسبانية وتتمتع بنوع خاص من الاستقلال لان لها أميرين ليسا
من أبنائها وهما الرئيس الفرنسي وأسقف اسباني... يزورها كل عام 10 ملايين
سائح يعيشون في وديانها وجبالها حلما جميلا ما بين خضرة الطبيعة وبياض الثلج
ويغرفون من مياهها المعدنية الصحة والعافية.
في بقعة شبه
منسية من جبال البيرينيه, بين الحدود الفرنسية الاسبانية تقوم إمارة بالكاد تظهر
في الخارطة, إمارة ليس لها ما لإمارة موناكو مثلا من شهرة ولكنها ذات جمال لا تحلم
به إمارة موناكو أسمها "أندورا". وإن كان اسمها نفحة شاعرية, فإن في
طبيعتها الفياضة بخضرة لا نهائية ما يولد في النفس شعورا بحبور نضرة.
تتميز هذه
الامارة المعروفة بـ "أندورا الوديان" بجملة من الاشياء تجعلها فريدة
بين الامارات منها ان الطريق اليها بري فقط, فلا اتصالات جوية بينها وبين أي دولة
أخرى, الى أن يأتي وقت ربما تتطور فيه التكنولوجيا الى حد اختراع طائرة تهبط في
المنحدرات, كما انها إمارة لا تستخدم السكة الحديد فالقطارات لا تصل اليها, ولا بد
للانزلاق الى قلب هذه الامارة, من مراحل عدة تبدأ من برشلونة أو تولوز حيث
المطاران الاسباني والفرنسي, ثم ركوب قطار الى أقرب نقطة إلى أندورا من الحدود
الفرنسية او الاسبانية واستخدام الباص أو سيارة نقل في ما بعد الى الامارة. وفي
الطريق, مفاتن خضراء تنسيك مئات الدروب وتعرجاتها اللانهائية, فما بين صعود الجبال
وهبوط في الاودية تكون قد وصلت الى أندورا وعرفت في وقت واحد ما كان يقصده العربي
القديم بقوله "صعاد قمم وهباط أودية". امارة أندورا صغيرة بحيث ان لبنان
مثلا -على صغره- يبدو بلدا شاسعا رحيب الارجاء فمساحتها 468 كلم2 في حين ان سكانها
لا يتجاوزون الخمسين ألفا إلا بمقدار, يتناثرون في مدن كالقرى وقرى كالمدن, فلا
فرق كبيرا بين مدينة متراجية في سفح جبل أو قرية تبيت في القمم حتى العاصمة نفسها
تبدو للعين قرية جميلة تعيش حياة المدن, فأندورا أشبه ما تكون بالمنتجعات الصيفية
المعلقة في الجبال.
امارة
برأسين
لا يدري المرء
ما موضوع الامارة في المستوى السياسي فهي من خلال تكوينها اارنح بين الاستقلال
والا إستقلال, فلا هي مستقلة ولا هي واقعة تحت سلطة أخرى, استقلالها يأتيها من غض
نظر فرنسي واسباني معا, إمارة ليس لها امير, كما تعتمد في استقبال السائحين على
مطارات ليست في أرضها, كذلك تعتمد في ادارة شؤونها الرمزية على الدولتين اللتين
تجاورانها... ورئاستها برأسين, رأس فرنسي هو رئيس الدولة الفرنسية الذي ينعم في
أندورا بلقب امير. ورأس اسباني هو اسقف مدينة أورجيل الذي يشاطر الرئيس الفرنسي
الامارة.
وعلى الرغم من
انه ليس لها أمير, طالع من الشعب الأندوري فإن لها من خصائص الاستقلال اشياء عدة
منها جواز سفر, ونشيد وطني باستقلالها, وشرطة خاصة ولغة رسمية هي اللغة
الكاتالونية فضلا عن اللغة الفرنسية, أما بالنسبة للعملة فعملتها الرسمية هي
الفرنك الفرنسي والبيزيتا الاسبانية على السواء. ومع هذا الارتباط بالدولتين
المجاورتين فإنه لا يحق لفرنسي ما أو
اسباني دخول أندورا وكأنه يدخل أرضه دون جواز سفر أو في الأقل بطاقة هوية.
يقصد أندورا
سنويا عشرة ملايين من السياح, ينعمون في قممها بلذائذ خضراء, عدد يصل اليها على
وعورة الطريق لما فيها من مباهج خارجة من رحم الارض نادرا ما وجدها في أماكن أخرى
من أوروبا على غزارة ما في القارة من جمال أخضر, وكأن الخضرة ليس هي كل شيء وإنما
السحر في وضعية هذه الخضرة.
يبحثون
عن سفينة نوح
عند قمم هذه
الامارة ولدت اساطير كونت جزءا من تاريخها ومن هذه الحكايات ذات النكهة الاسطورية
ما يشيع عن ان أوّل ما جف من الارض بعد طوفان نوح هو احدى القمم الواقعة في الأرض
الاندورية, وكانت هذه النقطة الجافة هي مرسى سفينة نوح, وما زالت هذه النقطة
السفينة الى الآن هنا, لا احد يراها, مغمورة بالثلوج كما يقولون, بانتظار طوفان
آخر آت في زمان, فيذوب الثلج الذي يغطيها وتستعيد دورها القديم في انقاذ البشرية
يركبونها ويفرون بجلودهم من غرق أكيد, والنقطة التي ترقد فيها السفينة اسمها
"ترافر فانت" أو الرياح الثلاث عشرة لان رياحا عاتية تهب من الاودية
التي تزنر القمة حين يأتي أناس متتطفلون, أناس بحاثة ونقابة عن سفينة نوح, الريح
بمثابة حارس طبيعي. فلا بد للأسطورة حتى تكتمل من أن تبقى سرا مجهولا, وحتى تبقى
كذلك, لا بد من ابقاء السفينة مغمورة بثوب من الثلج بانتظار ارادة إلهية.
هناك حكاية
اخرى مفادها ان شارلمان هو الذي منح هذا الشعب استقلاله كمكافأة له على دوره وعلى
قدمه لجيشه من مساعدة في مطاردة العرب الذين جاؤوا واحتلوا قسما من الارض
الاوروبية إبان الفتوحات الأولى, وثمة آثار قليلة موجودة في بعض الانحاء الاندورية
تشير في ما يبدو الى هذه المرحلة التاريخية كنقوش لوجوه يقال انها وجوه عربية في
برج كنيسة سان ميشال دنكولاستر, وقوس مازال الى الان بمثابة ذكرى ذلك العهد. وان
كان ماضي هذه الامارة مغلفا بالأساطير فان حاضرها مغلف بسحر أخضر كامن في موقعها
الآسر, وهذا ما جعل منها إمارة سياحية من الطراز الاول. فكأنها فجأة خرجت من
عزلتها التي يفرضها عليها موقعها النائي, وتدفق عليها بشر من أقطار الدنيا وكأنهم
اكتشفوها للتو, يقصدها خاصة سكان فرنسا واسبانيا للتنعم بهدوء تضفي عليه الاودية
والجبال هالة رومانسية بديعة.
أرض
التناقضات
وأندورا هي أرض
التناقضات, تناقضات تغري المرء وتفتنه فاذا بالمرء هنا هو يتنقل, ينقل معه النظر
من جبال مكسوة بالخضرة تارة وبالثلج تارة أخرى, الى أودية ريانة بالسواقي,
والغدران والبحيرات, وهو في الوسط لا يدري أين يستقر النظر, والطرق أيضا ذات
تعاريج وانبساط, تصعد وتنحدر ثم تلتف حول الجبال واذا بالنظر سكران من تغيرات
نادرا ما جناها في غير أندورا, وبين وقت وآخر ينبت شلال, من شقوق الجبال, وشلال
يرطب الجو بنغم مائي لذيذ وسط صمت الطريق, مشاعر تخلقها المناظر في نفس العابر
فتمنحه لذائذ غامضة, فهنا الجمال طبيعي صرف, والطرق في حد ذاتها مدعاة. عجب, فلا
منظر واحد في أندورا على تكرار الخضرة في كل صوب على تعدد أنماطها. فلا سهل يدوم
على مد النظر اذ ان النظر سرعان ما يرتطم بسد أخضر شاهق تحت سماء في غاية الصفو.
انها إمارة الاودية على الاطلاق وبين وقت وآخر ترى مجموعة من البيوت على ضفاف نهر
او جدول, بيوت من الحجر غير المصقول الذي هو خصائص أندورا بسقفه المغطى بحجارة
يميل لونها الى الزرقة وتكثر الجسور هنا لفرط تشعبات الانهار, واغلب هذه الجسور
قديم منه ما يعود الى العهد الروماني, جسور صغيرة قائمة على قناطر فوق المياه ذات
اللون العسلي, وترى ثمة رجالا يحملون قصبة الصيد ويستخرجون السمك الغزير الذي يعيش
في الانهار, الى حد ان السمك هو احد المآكل الرئيسية هنا, في القمم التي لا ترى
البحر, فأندورا واقعة في منطقة يتراوح ارتفاعها عن سطح البحر ما بين 939مترا و2407
امتار.
والعاصمة هي
المنطلق للتوغل في الامارة, ولكن هل يصلها المرء دون ان يكون قد عبر الحدود
الفرنسية او الاسبانية وتأقلم في الطريق مع طبيعة الامارة؟ فالعاصمة, وهي قي اي
حال موجز عن أغلب المدن الواقعة في السفوح, تنبسط في واد سحيق عند سفح جبل انكلار
الذي يرتفع 2318 مترا عن سطح البحر, تتمتع بالشمس في الصيق والشتاء معا.
عدد سكان
العاصمة عشرون ألفا, ويخترقها شارع رئيسي اسمه "مريسكل" على جنباته
تتناثر محلات تضم اخر منتوجات العواصم الكبرى محلات فاخرة في ابنية قديمة جدا,
والى جانبه مقاه ومطاعم تقوم على الارصفة في جو جبلي. والفنادق تكثر جدا كما في كل
المدن بل ان المرء ليعجب من تلك الفنادق التي تقوم في أماكن نائية ولا تخلو من
النازلين فيها, فكثيرون يقصدون تلك المناطق الهادئة حد الدهشة في قلب الجبال,
ويختارها خاصة هواة ممارسة السير الذين يقطعون أندورا سيرا على الاقدام, وكل يوم
في فندق جديد, أو ي بيوت قروية لفلاحين يؤجر قسم منها لليلة أو ليلتين, فلا يوجد
أندوري واحد لا يستمد من السايحة بعضا من رزقه, فهناك طريقان يخترقان اندورا وهما
أنشاء خصيصا لعاشق السير. واحدة منهما تربط بين الحدود الفرنسية والاسبانية تعرف
بالطريق رقم 7 وأخرى تعرف بالطريق رقم 11 أو طريق أوردينو.
مدينة
الينابيع المعدنية والسياح
ومن العاصمة
"اندورا لا فيللا" يذهب السياح الى مدينة "لاس اسكالادس" وهي
تبعد كيلومترين عن العاصمة. مدينة جميلة ومن أحلى ما فيها الينابيع المعدنية
العديدة والمميزة بمياهها الساخنة التي تصل حرارتها الى 80 درجة, والنساء هنا
يأتين لغسل الثياب في احواض ومغاسل تجر اليها مياه الينابيع وكأنها مسحوق غسيل
طبيعي سائل, أو ترى واحدة من النساء تنتف ريش دجاجة بعد ان تغسلها بهذه المياه
السحرية التي تستخدم لمآرب ايضا صحية, لمعالجة الروماتيزم وامراض جلدية عديدة, كما
انها تساعد على تنشيط الدورة الدموية. غير ان المدهش حقا هو استعمال الفنادق لهذه
المياه. فهناك عدة فنادق مزودة بأجهزة توصل المياه الى الصنابير فيستحم المرء في
بيته بمياه تدر اللذة والصحة معا, وفنادق أخرى مجهزة بمسابح تأتي إليها مياه
الينابيع التي جعلت من "لاس اسكالادس" معلما سياحيا نشطا في أندورا وما
يزيد المدينة جمالا هو نهر فاليرا الشمال الذي الى المدينة لينضم الى النهر الآخر
فاليرا الشرق.
بالقرب من هذه
المدينة تقع كنيسة سان ميشال إلا ان الوصول اليها لا تؤمنه وسائل النقل, فما على
المرء إلا ان يستعمل قدميه وسط الدروب الضيقة الصاعدة في الجبل فالكنائس في أندورا
هي الاثر الوحيد مع بعض الجسور التي تختزن من ضلوعها الحجرية مئات السنين, واغلبها
من الطراز الروماني, ونادرا ما غاب عن جدران الكنائس الرسم الجداري الذي يعطي
للكنيسة بعدا فنيا فضلا عن بعد ديني راسخ الى الان عند الشعب الاندوري كما تشتهر
الكنائس بتماثيل للقديسين خشبية ملونة اضافة الى تماثيل للسيد المسيح والسيدة
العذراء يعود تاريخها الى القرن الثاني عشر. وعلى بعد أربعة كيلومترات, يصل المرء
الى "انكامب" ذات الخضرة الآسرة.
تعتبر هذه
المنطقة نقطة الوسط الجغرافية لإمارة أندورا منها يصعد تلفريك الى بحيرة
"انكولاسترس" التي تعلو المدينة بحوالي ستمائة متر, مسافات قليلة تنقل
المرء من جو الى آخر, من ضفاف بحيرة الى ضفاف نهرلصيد السمك, فالصيد هنا يعدي,
ويجد المرء نفسه مندفع بشكل آلي الى ممارسة هواية لا يتقنها او ممارسة نسبها, وما
يدفعه الى ممارسة الصيد بالصنارة هو, بلا شك سهولة علق السمكة بالصنارة, وإن كان
صيد السمك نوع من الحلم فإن جو النهر المشجر يوقظ الاحلام الهاجعة في النفس على
خرير الانهار التي ترش رذاذها البارد المنعش حين ترتطم بالحصوات في مسراها.
والمكان الاكثر
شعبية عند الاندوريين هو منطقة "مريسكل" التي تبعد اربع كيلومترات عن
"انكامب" فهنا المكان المقدس حيث سيدة الأودية, والاندوريون يأتون الى
هنا في الثامن من ايلول \ سبتمبر من كل عام للصلاة, وبيت سيدة الأودية الحالي بني
عام 1976 على انقاض البيت القديم الذي اخترق عام 1974 واحترقت معه في الوقت نفسه
صورة العذراء الرومانية الاثيرة لديهم, ويكتمل العيد بعد الصلاة في حفلات فلكلورية
وسط الطبيعة, وما أكثر الافراح في حياة هذا الشعب وخصوصا في تموز \ يوليو وآب \
اغسطس و أيلول \ سبتمبر فلا يخلو أسبوع من عيد في إحدى المدن, حيث يختلط الرقص
بالطرب, في جو بهيج, فلكل مدينة عيد خاص بها فضلا عن الاعياد الكبرى كعيد الميلاد
وعيد الفصح. والايمان ما زال الى الآن في بعض المناطق ذا طابع شعبي كما يتجسد عند
البعض في عيد الميلاد حيث يشعل الموقد, في البيت, قبل الذهاب الى الصلاة اليلية
حتى تشعر السيدة العذراء بدفء حين تدخل الى بيوت الذين ذهبوا الى الكنيسة, لتبارك
ايمانهم.
أندورا ليست
فقط بلاد المياه الساخنة, والطبيعة الخضراء, فهنالك القمم التي تكتسي بحللها
البيضاء فتغري عشاق التزلج بالمجيء خصوصا ان الثلج يظل حوالي ستة اشهر متتالية,
ومحطات التزلج لا حصر لها في تلك المرتفعات الشاهقة, بأتيها المحترفون والهواة. وكثيرون
يأتونها للتعلم على التزلج. فمدارس التزلج تنتشر حيث تنتشر محطات التزلج, وسحر
الثلج هنا يستمد من زرقة السماء اللازوردية مما يمنح بعض الدفء في ذلك الصقيع
الابيض للآتين إلى إمارة اللذة. الامارة المنسية التي تخرج من نسيانها لتستضيف
سياحا يتنامى عددهم عاما بعد عام بفضل ما يحس به المرء في ربوعها الخضر, وقممها
البيض من احاسيس تكاد تكون فردوسية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق