الأحد، 5 يونيو 2016

نظرة الجاحظ إلى الصين:

انظر الآن في نصوص الجاحظ لاستخراج رأيه في الفكر الصينيّ. الجاحظ كاتب نهم، وقارىء نهم، وهو في الخيال العربيّ قارىء لا يملّ من التعرّف والاكتشاف وتحرّي الحقائق وعدم الرضوخ للمزاعم المرويّة. فضوله دفعه حتى الى قراءة سلوك الحيوانات كبيرها وصغيرها، كما كان له اهتمام بقراءة الشعوب وعاداتها وعقد مقارنات في ما بينها، فله رسائل عديدة منها رسالة عن مناقب الترك، وأخرى عن السودان، وسأستشهد بعدّة عبارات وردت في كتبه لمعرفة المكانة التي تحتلّها الصين في نظره، وهل له نظرة خاصّة أم مختلفة عن غيره؟ ترد هذه العبارة للجاحظ : "إنّ الأُممَ التي فيها الأخلاقُ والحِكمُ والعِلمُ أربعٌ، وهي: العَرَبُ، والهِندُ، وفارِسٌ، والرُّوم"([20])، وهي لا تختلف كثيراً عن عبارة ابي سليمان المنطقيّ في نصّ أبي حيّان التوحيدي، ولكن فيها إضافات مهمّة وتفصيلات تحدّد الدوافع التي حدت بالجاحظ إلى كتابتها وصوغها هذه الصياغة المحكمة وكأنّها حقيقة منزلة، وهي هنا ثلاث نقاط أو ثلاثة معايير: الأخلاق والحكم والعلم. ولا نجد حضوراً للصين بين هذه الأمم. والغياب دالّ وقوّال. وفي نصّ آخر وردت الصين كمثال عن الغاية في الصناعة في الرسالة التي وضعها حول مناقب الترك، فيقول:" ان كل امة امتازت بشيء ، فأهل الصين  في الصناعات، واليونان في الحكم والآداب، والفرس في الملك والسياسة"[21] والصناعة يقصد بها "الحرفة اليدويّة" أو " العمل اليدويّ". يفترض أن لا يغيب عن البال ان عبارة "صناعة" لم تكن تحمل في زمن الجاحظ  ما تحمله من إيجابيات وقدرات تكنولوجيّة! كان يرى في الترك قدرات كامنة لم تتوفّر لها ظروف الظهور والتألقّ،  فيقول: "ولو كان فيشقّهم أنبياء، وفي أرضهم حكماء، وكانت هذه الخواطر قد مرّت على قلوبهم، وقرعت أسماعهم، لأنسوك أدب البصريين، وحكمة اليونانيين، وصنعة أهل الصين"([22]). وفي هذه العبارة ثلاثة عناصر: الأدب، والحكمة، والصنعة، واعتبر لكلّ واحد من هذه العناصر نموذجاً تمثّله أمّة من الأمم بلغ الغاية في الجودة والإتقان، فالأدب للبصرة، أي للعرب عامّة، وللمدينة التي شهدت ولادة الجاحظ نفسه، وهي كانت مدينة ناشطة ثقافياً وفكرياً ولغوياً وأدبياً في عهد الجاحظ، قبل أن تأخذ بغداد منها وهجها المعرفيّ، أمّا الحكمة فهي ذاهبة الى اليونان، مسقط رأس الفلسفة والمنطق، ولم يترك للصين إلاّ ميدان الصنعة، أي الصنعة اليدوية وعدم ملاحظة مهارات فكريّة أو أدبيّة أو حكميّة لها. ولا تختلف نظرة الجاحظ في هذه النقطة عمّا لمحه صاعد، وأشار إليه أبو حيّان. وتظهر بوضوح أكثر في هذا الشاهد:  "فأما سكّان الصين فإنّهم أصحاب السبك والصياغة، والإفراغ والإذابة، والأصباغ العجيبة، وأصحاب الخرط والنجر والتصاوير، والنسج والخطّ، ورفق الكفّ في كلّ شيء يتولّونه ويعانونه، وإن اختلف جوهره، وتباينت صنعته، وتفاوت ثمنه. فاليونانيّون يعرفون العلل ولا يباشرون العمل، وسكّان الصين يباشرون العمل ولا يعرفون العلل، لأنّ أولئك حكماء، وهؤلاء فَعَلَة"([23]
وكلمة " فعلة" التي يستعملها الجاحظ ، ترد في خلال عقد مقارنة أهل الصين بأهل اليونان الحكماء حيث إنّ الحكمة بمعنى التفكير الفلسفيّ غاب عن أهل الصين بسبب غياب معرفتهم بالعلل.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق