الأحد، 19 أبريل 2015

ضباع وطباع












بعض الناس يجهلون قدراتهم, فيذهبون إلى استعارة قدرات غيرهم, والاستعارة، أيّاً كانت، بمثابة الثوب المستأجر أو المستعار, علاقة الإنسان به واهية, لأنه يسرق الذكريات وينتهك حرماتِها.
لا أعرف لماذا لا تفارقني حكاية امرأة أرادت أن تستعين بالخرافات وتستعير من الوهم قوتها رغم امتلاكها لقوّة العقل وحنكة السلوك، ورغم حيازتها على كيد يضع كيد الشيطان في جيبتها الصغيرة، وليس في كلامي هذا أيّ انتقاص للمرأة الكائدة. والكيد نوعان كيد إلاهيّ وكيد شيطانيّ، وأقصد بذلك أن ليس كلّ كيد من صنيعة الشيطان. ولا تخلو القصّة التي سوف أسردها من نكهة دالّة تفتح النفس, ويمكن حملها، كأي قصّة، على أكثر من وجه. فالحكايات كالأمثال من حيث قدرتها على التفلّت من مسقط رأسها الدلاليّ. فتتعدّد معانيها ومغازيها بتعدّد السياقات والأوقات التي تتنزّل فيها.
من يجرؤ, في أيّ حال, على أسْر حكاية أو مثل أو قول مأثور في دلالة مفردة يتيمة يكون كمن ينطح حائطاً من الباطون المسلّح!
تروي القصّة حكاية امرأة زوجها فظّ اليد واللسان وغليظ القلب والمسلك. جلساته في البيت أقلّ بكثير من جلساته مع الأصدقاء المشبوهين وبنات الهوى. أرادت المرأة إصلاحه إلاّ أنّها عجزت, فيما يبدو, والعجْز يدفع الإنسان إلى الإيمان بالترّهات والخرافات وطلب النجدة من السحر والشعوذة والتعاويذ, أي أنّ حالتها حالة الغريق الذي يرى في القشّة طوق نجاة. قرّرت المرأة الذهاب إلى شيخ ماكر! وماهر في كتابة الأحجبة. وهو, فيما يبدو, فضلاً عن مهارته في كتابة الأحجبة, ماهر في استخراج القوّة المهملة الهاجعة في ذات كلّ شخص, ولا يخلو شخص من قوّة! ويحبّ هذا الشيخ أن يعتمد الإنسان على ذاته في حلّ أزماته لا على حبْك الخرافات ونسج الأحجبة. حكت له مأساتها الزوجيّة, مع كلّ ما تملكه المرأة من مهارة جدّتها الرائعة شهرذاد في حياكة الحكايات. حين أنهت حديثها قال لها الشيخ: أمر زوجك سهل وبسيط, سأكتب لك الحجاب الذي يعيد زوجك الضالّ إلى الصراط المستقيم ولكن لا يمكنني كتابته إلاّ إذا أحضرت لي ثلات شعرات من رأس ضبع حيّ وطليق, فيصير زوجك بموجبه طيّعاً كالخاتم في إصبعك، ولكن احذري الغشّ لأنّه ينقلب عليك، فلا بدّ من نتف الشعرات الثلاث بيديك أنت، وعليه لا يمكنك استبدال أصابعك بأصابع غيرك.
راحت السكرة وجاءت الفكرة. من أين لها أن تصل إلى رأس الضبع أو فروة جلده؟ دون ذلك، كما يقال، خرْطُ القَتاد، ولكنّ الحاجة تفتق الحيل وتبتكر الحلول. صممت المرأة على إحضار الشعرات الثلاث التي سوف تنقذ زوجها من براثن الفسوق الناهشة في أركان بيتها وأسرتها. وراحت تستخبر عن مكان يوجد فيه ضبع إلى ان علمت بوجوده في ناحية من نواحي إحدى الغابات. هنا عمدت إلى صياغة استراتيجيا لها حنكة السّلحفاة وحكمتها، ثمّ شرعت في تنفيذها خطوة خطوة بل بالأحرى شعرة شعرة. ذهبتْ لملاقاة مخلّص بيتها من الانهيار, وأخذت معها كمية طازجة كبيرة من لحم الضأن, وحين دنت من المكان, سمعت عواء الضبع فسقط قلبها رعباً, إلاّ أنْ ما تملكه من الإصرار دفعها إلى العضّ على خوفها وحبسه في جوفها. تابعت المسير إلى أنّ أطلّ الضبع برأسه المرعب فبدأت برمْي قطع اللحم قطعةً قطعةً وهي تتراجع, ولا تعرف كيف تمّ تراجعها ووصولها إلى البيت. لم تلمسْ شعرة واحدة من شعرات الضبع. كانت خطوتها التالية أنْ تقوم بتكرار عمليّة الأمس, أي أخذ كميّة من اللحم والذهاب، مجدّداً، إلى الغابة لإطعام الضبع, لا بدّ من الحصول على الشعرات التي طلبها الشيخ ولو كلّفها ذلك التضحية بعشرات الخرفان. "لا مفرّ من تغيير سلوك زوجي ليس كرمى لعينيه ولكن كرمى لفلذات أكبادي"، هذا ما كان يقوله لسان حالها. كانت في كلّ مرّة, تقضم المسافة الفاصلة بينهما بالسنتمترات, أيْ أنّها كانت، بشكل من الأشكال، تقلّص مجال الضبع الحيويّ, وهذا ما يفعله الإنسان في أيّ حال حين يروّض ويدجّن الحيوانات الوحشيّة, ولولا ذلك لما استطاع حيوانٌ كاسر أن يتأقلم مع مذلّة القفص كما قال العالم الانتروبولوجيّ ادوارد هول في كتابه الممتع "البعد الخفيّ".
ظلّت المرأة، على هذا المنوال، إلى أن اختفت المسافة بينها وبين الضبع كلية, فصار يأكل وهو على مقربة منها بحيث إنّ شعرات رأسه صارت في متناول أصابعها. هنا، أيضاً، رغم ألفة الضبع لها ولهفتها على الحصول على الشعرات، لم تواتها الشجاعة ولم تطاوعها أصابعها في نزع الشعرات الثلاث، دفعة واحدة، من رأس الضبع فاكتفت بشعرة واحدة على أمل أن تأتي بالشَّعرتين المتبقيتين في الأيّام المقبلة، وهي تعرف أنّ العجلة، كما يقول المثل، من الشيطان.
بعد أنْ حصلت المرأة على مرادها الضبعيّ، ذهبت مسرورة, تطفح من وجهها علائم البشر والنصر, إلى الشيخ لتحصل أخيراً على الحجاب الموعود الذي يعيد إليها زوجها من أحضان الغواني. استقبلها الشيخ بالترحاب والاستغراب ثم قال لها, بشيء من الخبث, أنا آسفٌ يا أختي لن أنفّذ لك وعدي بكتابة الحجاب. هنا جنّ جنون المرأة. ماذا؟ أيذهب تعبها هدراً؟ أبعد كلّ هذه الأيّام والخراف تطير من فمها لقمة النصر الشهيّة؟
قال لها الشيخ: رويدك يا امرأة، كلامي لا يستدعي الغضب أو الخيبة، لن أبرّ بوعدي لأنّي لا أظنّ أنّك بحاجة الى حجاب يأسر سلوك زوجك, فامرأة مثلك قادرة على ترويض وتدجين ضبع لن يعجزها ترويض طبع, وأيّاً كان طبع زوجك، يا أختي، فهو, لا ريب, لن يكون بشراسة طباع الضباع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق