أراد أحد الشعراء أنْ يظهر عجز الإنسان أمام معنى الكلام فنظم بيتين من الشعر.وأراد هذا الشاعر أيضاً أن يلفت النظر إلى أنّ معنى الكلام لا يمكن له أن يتحقّق بفصله عن مقامه وسياقه. وكأنّه أراد أن يؤكّد نظريّة الفيلسوف اللغوي النمساويّ فِتْغِنْشْتَايْنْ صاحب العبارة المشهورة" ليس للكلمة معنى وإنّما لها استخدامات". وكل استخدام جديد لبنة جديدة تضاف إلى بنيان اللفظ.
إن الكلام المجرّد من سياقه الزمني أو الجغرافيّ أي ما يعرف بمناسبة النص كلام يبقى معناه متأرجحا كريشة في مهبّ الريح.
لم يتفنن الشاعر كثيراً في انتقاء ألفاظه، لم يلجأ إلى الكلمات الزئبقية، التي تثير الحيرة وتفتح المجال إلى تآويل لا تنتهي، وإنّما اكتفى بمفردات معروفة واضحة الدلالة، لا يمكن أن يختلف حول دلالتها شخصان. ومع هذا فانه لا يمكن لأيّ شخص، مهما أوتي من قوّة البيان، أن يحسم الدلالة. هنا الإنسان عاجز، لا محالة، عن فهم ما يسمع، واللغة أيضاً عاجزة عن توصيل ما تريد. عجز مزدوج بشريّ ولغويّ في آن. والطريف أنّ العجز ليس بسبب أنّ السامع أو القارىء أمام لغز من الألغاز اللغوية التي برع العرب قديماً في صياغتها نثراً وشعراً، وإنّما أمام نصّ بسيط، نصّ موزون، أقرب إلى النظم العلميّ منه إلى النظم الشعريّ، إلاّ أنّه نظم يوقع مخيّلة القارىء في مأزق دلاليّ. لم يفرج الشاعر عن المعنى، أبقاه في بطنه.
قصّة البيتين هي التالية: أراد الشاعر أن يفصّل قباء، فذهب عند خيّاط أعور، وبعد فترة استلم الشاعر قباءه، ولم يصرح لنا الشاعر ان كان القباء الذي فصله خياطه الأعور قد نال استحسانه أم لا. لم يقل لنا شيئا عن براعة الخيّاط أو غبائه. ولكنّه علّق على القباء في هذين البيتين:
خاط لي عَمْرُو قَباء ليت عينيه سواء
فاسأل الناس جميعاً أمديح أم هجاء.
طبعاً، من يمكن له أن يفسّر لنا المعنى هو القباء، حتى لو كان أخرس لا يحكي. ردّة فعل الخياط لم تصوّر، واضحة، في النصّ. ظلّت تتأرجح بين المدح والهجاء.
ان الشاعر يعرف انه ألقى في هذين البيتين أمام القراء عملاً تعجيزيّاً وإلاّ لما طلب من القارىء أن يستعين بالناس في إزالة الالتباس. والشاعر يعرف مسبقاً أن الناس مثلهم مثل السامع عاجزون عن فكّ أسر المعنى، والإفراج عنه.
النصّ على وجازته شديد الغنى والدلالات، ويفسح المجال أمام أسئلة كثيرة، قد تكون أجوبتها في الختام لا تختلف كثيراً عن مصير معنى البيتين.
إنّ الخياط أعور أي أنّه فاقد لنصف قدرته البصرية، أمّا القارىء هنا فصحّة عينيه لا تختلف كثيراً عن عين الخيّاط العوراء، لأنّه لا يرى شيئاً على الإطلاق، إن المعنى أمام ناظريه مظلم ودامس.
وثمّة عمرو، أيضا، ولعمرو في عالم النحو حكايات تثير الشفقة، إنّه وزيد في كتب النحو مثل "توم" و"جيري" في مسلسل الرسوم المتحركة. هل تكشف لنا حياة عمرو النحويّة عن شكل القباء، ربّما، خصوصاً إذا عرفنا أن عَمْراً في الأمثال النحوية هو الذي يمثّل دور الضحية باستمرار، وهو الذي يتلقى الضرب المبرح من زيد!
هل كان عمرو النحويّ في ذهن الشاعر حين كتب هذين البيتين؟ لست أدري! بل قد يكون اختيار الشاعر لاسم عمرو تحدّياً وخصوصاً أنّه اسم عام كأسماء هند وليلى ولبنى لدى شعراء الغزل. اسم عام، هلاميّ، لا كيان له، وقد يكون عملية ثأر أيضاً ليس من شرّاح الشعر وإنّما أيضاً من النحاة الذين ظلموا كثيراً عمرو. كما ظلموا الشعراء أيضاً، وعلاقة كلّ من الفرزدق والمتنبّي مع النُّحاة كانت معروفة بتشنّجها الدامي أحيانا.
ومع هذا، لا أحد يستطيع أن يقول أنّ الشاعر لم ينسج بيتيه على منوال النحاة الذين أذاقوا عمراً الأمرّين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق