الاثنين، 20 أبريل 2015

هوايتك هويتك



بعض الناس يعيشون، للأسف، بلا هوايات، (والهواية كالهويّة) وقد تراهم مخلصين ومتفانين في ما يقومون به من عمل، ولكنّهم ينسَون في خضمّ عملهم أنْ يزرعوا هواية صغيرة، في فسحة من بسْتان العمر، لأيّام الشيخوخة أو أوْقات الضيق والفراغ.

والهواية كالقرش الأبيض لليوم الأسود. وكم من شخْص يصل إلى سنّ التقاعد خالي الوِفاض من الأحلام والمشاريع، وخالي الوِفاض أيضاً من الهوايات، فتبدأ الكآبة بإفساد عيشه وقضْم ما تبقّى له من عمر، فتتغضّن بشرته ويدِبّ الترهّل في تضاعيف فكره وتلافيف روحه، ويعيش مرتبكاً بأيّامه، ويتحوّل إلى عبء على ذاته قبل أنْ يتحوّل إلى عبء على الآخرين، فتراه في هيئة المتسكّعين.

هذا ما حصل لأحد الأشخاص حين دنا من سنّ التقاعد ( وكثيرون يلعبون بمفردة "متقاعد" فيقسمونها إلى: "متْ قاعد"، أيْ يتحوّل المتقاعد إلى "موت على القاعد"، والتقاعد يعود، في أيّ حال، جذريّاً، إلى القعود). بدأ الخوف من سنّ التقاعد ينغّص عيشه وشعر أنّه ينزلق إلى دهاليز سنّ اليأس المعتمة. ومن السخف الخبيث اعتبار "سنّ اليأس" حالة نسائيّة لأنّها إنسانيّة عامّة غير مرتبطة بسنّ أو جنس.

بدأ، إثر هذا الإحساس، وزن ذلك الشخص بالتناقص وبدأت الخلافات مع أهل بيته تتفاقم، ونفسيته تتداعى، والنوم ينفر من عينيه. استشار عدّة أطباء دون أنْ يظهر أيّ سبب بدنيّ لنقْصان وزْنه أو طغْيان أرقه.

ولكنّه كان، لحسن حظّه، يرتاد المكتبة العامّة في الحيّ الذي يقطنه، وكان على علاقة طيّبة مع أمينها، وكان يتحدّث معه عن مخاوفه من اقتراب ذلك اليوم المرتقب الملعون، يوم التقاعد. وبحكم خبرة أمين المكتبة بالكتب وبحكْم معرفته الشخصيّة بقرّائه كان يعرف أنّ قارئه من هواة صيْد السمك. وأنّه يسكن على طريق رئيسيّ بالقرب من بحيرة. اقترح أمين المكتبة عليه كتاباً عن صيد السمك بالصنّارة، وآخر عن تربية الدوْد لطُعْم الصنانير، وثالث عن إصلاح صنانير الصيد، وقد اقترح أمين المكتبة ذلك بحسن نيّة حتّى لا يملّ الرجل هوايته، وحتى يصلح أدواتها بنفسه، فالهوايات أيضا تتطلّب الإتْقان حتّى تُمارس بانشغاف الاحتراف.

وحين عاد الميّتُ رعبةً من يوم التقاعد لإعادة الكتب المستعارة لاحظ أمين المكتبة أنّ ذلك الشخص قد تغيّر بعد قراءته لهذه الكتب تغيّراً شديداً، وعادت الحياة تتدفّق من عينيه وأسارير وجهه. وقال لأمين المكتبة إنّه يريد فتح محلّ على الطريق الرئيسيّ الذي يرتاده الصيّادون كثيراً. وبالفعل بدأ الرجل في تجارة الصنانير وإصلاحها وبيع كلّ ما يتطلّبه الصيد من عدّة. كان الرجل يعرف المنطقة التي يعيش فيها جيّداً ويعرف البحيرة بأسماكها كما يعرف كفّه. وقال الرجل لأمين المكتبة وعيناه تلمعان بالأفكار(التقاعديّة) إنّني أستطيع أنْ أقدّم خدماتٍ إرشاديّةً في الصيد للأغراب والسيّاح الذين يقصدون هذه المنطقة. قال:لقد نسيت تماماً فكرة التقاعد ولم تعد ترعبني بل إنني لأستهين بها الآن وأرى نفسي اليوم لا أنشغل إلاّ بشيء واحد وتطويره وهو الصيد.شكراً للكتب وشكراً لك أيّها الأمين على الاستماع إليّ والى شكواي وأفكاري.

وقد خلد الرجل إلى أفكاره وخططه الجديدة وانشأ تجارة رائجة استمتع بها واستغرقت أوقاته.وتحوّلت أيّام التقاعد إلى أيّام رائعة مكتنزة بالعمل والحماس والإقبال على الحياة، وبدا الرجل وكأنّه في عزّ شبابه.

 نحن هنا أمام حالة واضحة حيث أفادت الكتب الرجل فائدة عقليّة وبدنيّة ومادّيّة، لأنّها لفتت نظره إلى إمكانيّة تحويل هواية عاديّة إلى مشروع لمحْو الكآبة والرتابة. ولكنْ لا يمكن نسيان فضل أمين المكتبة على هذا الخائف من هجمة سنوات التقاعد العجاف، وما كان بإمكان أمين المكتبة أنْ يقوم بهذا الدور العلاجيّ لولا شغفه بالكتب ورغبته في إقامة علاقة أبعد من حدود الكتب مع قرائه. لقد قام أمين المكتبة عمليّاً بكتابة "روشتة كتب" لم تصدر من طبيب، ولكنّها كانت ناجعةً نجاعةَ وصْفةٍ طبّيةٍ فعليّة.

البعض يعتقد أنّ الكتب لا تمتلك القدرة على تغيير نمط الحياة، ولكنْ ثمّة، اليوم، علم حقيقيّ يشتغلون عليه في الغرب وهو علم"البيبليوتيرابيا" (Bibliotherapy) أو " العلاج بالقراءة"، يتعاون فيه أطبّاء وعلماء نفس وأمناء مكتبات. ونادراً ما يخلو مستشفى من قاعة للقراءة ومن أمناء مكتبات خبراء يرشدون المرضى إلى كتب أشبه بالأدوية تحسّن أحوالهم أو تفتق أذهانهم على أفكار مثْمرة كانت نائمة أو مغمورة بتفاصيل بؤْسهم اليوميّ.ولكلّ مرض( أو حالة اكتئاب) كتاب.


بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق