السبت، 25 أبريل 2015

"ماكدونالدز" وأبو حنيفة "الخزّاز"













قرأت حكاية حصلت مع أبي حنيفة النّعمان فكانت دافعاً لي للتنقيب في سيرة حياته. أوّل ما لفت نظري في سيرته أنّه تاجر، تاجر بالمعنى النبيل للكلمة، فنحن نعرف أنّ خطّ التجارة متعرّج، قيعانه أكثر من قممه، وهذا ما برّر ولادة عبارة "التاجر فاجر" في لسان العرب. والتجارة الحنفيّة هي ما يبرّر دخول ماكدونالدز على عنوان المقال، ماكدونالدز وجهة نظر أميركية، يمكن أن نكشف عن السياسة الأميركية نفسها من خلال علاقة مطعم الوجبات السريعة مع الزبون، أو هذا ما أراه على الأقلّ. وهنا أريد الإشارة أنّ لكلّ حضارة حسنات وسيئات. ليس هناك حضارة نقيّة مائة في المائة، هذه سنّة الحضارات بما فيها حضارتنا الإسلامية نفسها إبّان زهْوها. شيء ما في سياسة ماكدونالدز لا يعجبني، وحين أقارنه بطريقة أبي حنيفة في التجارة سوف يظهر الأمر جليّاً. إليك الحكاية الأولى من أبي حنيفة التاجر. الطريف في تراثنا الإسلاميّ أنّ بعض الأدباء والعلماء كانوا يعملون في التجارة أو يمتهنون حرفة من الحرف طلباً للاستقلاليّة وليس بهدف "استغلال نفوذ". إنّ العمل خارج ميدان العلم لأجل العلم يحرّر العالم من الاعتبارات غير العلميّة، فلا يصير مضطرّاً لممارسة المدْح المداهن او الذمّ المشكوك في نواياه، أو تابعاً لهذا الفريق أو ذاك بغية الوصول إلى مآرب ومناصب لا علاقة لها من حيث العمق بالعلم المحض. يصير علمه لوجه العلم، نقيّاً، لا غبار عليه. ومن هنا نرى أنّ كثيراً من المؤلّفين العرب القدامى يحملون ألقاباً توحي بمصادر دخلهم كالخزّاز أو الزجّاج أو الثعالبيّ أي بائع فراء الثعالب كما نرى في كتاب "الطُّرْفة فيمن نسب من العلماء إلى مهنة أوحرفة" للباحث عبد الباسط الغريب.
كيف كانت تجارة أبي حنيفة؟ هذه الحكاية عيّنة عن طريقة ممارسة أبي حنيفة للتجارة. جاءته امرأة بثوب من الحرير تبيعه له، فقال: كم ثمنه؟ قالت: مائة، فقال: هو خير من مائة، فقالت: مائتان، فقال: هو خير من ذلك، حتى وصلت إلى أربعمائة فقال: هو خير من ذلك، قالت أتهزأ بي؟ فجاء برجل فاشتراه منها بخمسمائة. قد يرى البعض أنّ أبا حنيفة النعمان فوّت على نفسه فرصة الربح. ولكن هل بالربح السريع وحده يحيا الإنسان؟ قد يرى البعض أنّ أبا حنيفة لا يصلح للتجارة، ولكنّ أرباحه واستمرار نشاطه التجاريّ المزدهر إلى آخر حياته يفنّد قول من يراه لا يصلح للتجارة.
كيف يتصرّف مطعم ماكدونالدز؟ يمارس سياسة القنص والإحراج. والتاجر الذي يُحرج الزبون تاجر لا يعرف مصلحته بعيدة المدى. التاجر الشاطر، من وجهة نظري، هو الذي يخرج الزبون من عنده مرتاحاً، لا يشعر بأنه "انقنص"، وكلمة القنص يعرف صيّادو الطيور معناها جيّداً!. سياسة الإحراج والقنص سياسة بغيضة، فأنت حين تدخل لشراء صنف من الأصناف في ماكدونالدز يعرض عليك تكبير "علبة البطاطا" او تكبير "علبة العصير". طبعاً الحجم الكبير ليس مجانّاً عن روح الأخوين ريتشارد وموريس مكدونالد ( Richard et Maurice ) صاحبَي الفكرة الرائدة في عالم المآكل. البعض يُحرَج من العرض الخبيث فيقول: أوكي. ولكن هل وافق فعلاً؟ البعض يظنّ سحب المال من جيْب الزبون بأصابع الزبون نفسه مهارة ولكنّي أراها حماقة تجاريّة تشبه النَّشْل. أفضّل سياسة أبي حنيفة على سياسة مكدونالدز. هل تختلف سياسة أميركا عن سياسة القنص المَاكْدونالْدزيّ؟ لا أظنّ. وهي سياسة قصيرة النفَس حتى ولو بدا الظاهر الحاضر على خلاف ما أقول.
الغاية من المقدّمة هو الحكاية التالية التي تظهر حنكة أبي حنيفة ومهارته وسعة حيلته في الوصول إلى غاياته بطرق ليس بالضرورة أن تكون معبّدة بأقدام غيره؟ ومن الطريف مقاربة مذهب أبي حنيفة الفقهيّ من خلال طريقته في التجارة وطريقته في إيجاد الحلول المبتكرة.
ثمة تجّار فجّار ليس لتجارتهم سمات التّجارة المبرورة وإنّما سمات المكر الخبيث والدهاء الشيطانيّ بخلاف ما يقوله مظهرهم الوديع عنهم. بعض المظاهر تخرّجت على يد "مسيلمة الكذّاب"! وهؤلاء كان يعرف كيف يتعامل معهم أبو حنيفة رجل الفطنة والمكر ولكن الخيّر. وإليكم الحكاية، يروى" أنّ رجلاً كان يتجمّل بالستر الظاهر والسمت البيّن، وكان يلبس على ذلك، فقدم رجل فأودعه مالاً خطيراً وخرج حاجاً، فلما قضى نسكه عاد إلى صاحبه وطلب وديعته فجحده، فألحّ عليه فتمادى في الإنكار، وكاد صاحب الوديعة أن يجنّ، واستشار أحد أصحابه في أمر آكل الوديعة فقال له: كُفَّ عنه، وصِرْ إلى أبي حنيفة فدواؤك عنده، فانطلق الرجل إليه وخلا به، وأعلمه شأنه وشرح له قصّته، فقال له أبو حنيفة: لا تُعلِمْ بها أحداً، وامْضِ راشداً وعدْ إليّ غداً، فلما أمسى أبو حنيفة جلس كعادته واختلف الناس إليه، فجعل يتنفّس الصعداء كلّما سئل عن شيء، فقيل له في ذلك قال: إنّ هؤلاء - يعني السلطان - قد احتاجوا إلى رجل يبعثونه قاضياً إلى مكان، وقالوا لي: اخترْ من أحببت. ثم أسبل كمّه وخلا بصاحب الوديعة، وقال له: أترغب حتى أسمّيك؟ فذهب يتمنّع عليه، فقال له أبو حنيفة: اسكتْ فإنّي أبلّغك ما تحبّ، فانصرف الرجل مسروراً يظنّ الظنون بالجاه العريض والحال الحسنة، وصار ربّ المال إلي أبي حنيفة فقال له: امْضِ إلى صاحبك ولا تخبرْه بما بيننا، ولوّح بذكْري وكفاك، فمضى الرجل واقتضاه وقال له: اردد عليّ مالي وإلاّ شكوتك إلى أبي حنيفة. فلمّا سمع ذلك وفّاه المال. وصار الرجل إلى أبي حنيفة وأعلمه رجوع المال إليه فقال له: استره عليه. ولما غدا الرجل إلى أبي حنيفة طامعاً في القضاء نظر إليه أبو حنيفة وقال له: نظرت في أمرك فرفعت قدرك عن القضاء.
ارتفاع قدْر كان بعده سقوط من لا يعرف أنّ أبا حنيفة يعرف، سقوط ناعم الملمس ولكنّه كان كفيلاً بتهشيم رغبات الرجل الذي يسطو على الودائع من طريق اعتماد الستر الظاهر والسَّمْت البيّن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق